آراء ومواقف

تونس: التغيير بعقلية رجل المطافئ

*رنا الصبّاغ

تونس- تعيش تونس هذه الأيام أوضاعا سياسية، وأمنية، واقتصادية واجتماعية مقلقة، وسط تصميم الحكومة على قدرة البلاد على مواجهة سيل التحديات المتدفقة من كل صوب في مهد “الربيع العربي”.

تونس- تعيش تونس هذه الأيام أوضاعا سياسية، وأمنية، واقتصادية واجتماعية مقلقة، وسط تصميم الحكومة على قدرة البلاد على مواجهة سيل التحديات المتدفقة من كل صوب في مهد “الربيع العربي”.
يساند الخطاب الحكومي حزبيون وساسة وإعلاميون، يرفضون الإقرار بفشل السياسات الاقتصادية التي أعقبت ثورة المستضعفين، والإطاحة بنظام زين العابدين بن علي مطلع العام 2011. بل ويلقي العديد منهم اللوم على جبهات متعددة؛ الإعلام المحلي والغربي، وتضخيمه للأحداث من منظور “نصف الكأس الفارغة”، ثم رجال الحرس القديم الممعنين في إفشال تجربة تونس التي انقلبت عليهم وعلى بن علي. كما يتهمون دولا في المنطقة بالسعي إلى التشويش على التجربة التونسية التي تسير على سكة الديمقراطية بدلا من الارتماء مجددا في حضن الدكتاتورية، كما حصل في غيرها تحت مسوغات تقديم الأمن والاستقرار على النهضة والتطور. ويجزمون بأن الأوضاع الاقتصادية في غالبية دول المنطقة تسير في الاتجاه الخاطئ، وأن أوروبا نفسها تعاني من خطر تدويل الإرهاب.
رغم محاولتها التركيز على الحقائق التي تخدم مقاصدها، تواجه أشرعة حكومة الحبيب الصيد رياحا عاتية، بينما يتساءل البعض عن أوجه إنفاق أكثر من 3.5 مليار دولار من المساعدات الغربية لتونس منذ الثورة من دون أن يلمس المواطن أي أثر لذلك.
برأي هؤلاء، فإن تونس لم تغادر الوضع المؤقت بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية؛ إذ ما تزال تعيش أزمة قيادة فعلية تبعدها عن الوصول إلى مرحلة المراكمة الضرورية للمكتسبات وللعمل المؤسساتي الذي يحقق الأمن والاستقرار التدريجي.
والحكومة تتعامل مع التحديات المتداخلة بعقلية “رجل المطافئ”، من دون وضع البلاد على سكة الإصلاحات المطلوبة بسبب ارتفاع الكلف السياسية لهكذا سياسات. ولذلك ستبقى عاجزة، إلى حد كبير، عن تحريك عجلة الاقتصاد وتشغيل الطبقة الكادحة ومحاصرة تنامي الفكر المتشدد بين الشباب، وسط شلل غالبية القطاعات، خصوصا السياحة؛ عماد الدخل الوطني.
وثمّة شعور شعبوي ونخبوي بأن التغيير في المشهد السياسي لامس الشكل ولم يتغلغل في هياكل الدولة العميقة. ويكثر الحديث عن الأوضاع الاقتصادية المقبولة في ظروف أمنية مستقرة زمن بن علي، بدلا من موجة الغلاء وتدني القدرة الشرائية، مع تنامي الفوضى والانفلات الأمني، مقابل ارتفاع مناسيب حرية التعبير “التي لا تملأ البطون”. وهناك شعور بعدم الجدية في محاكمة أقطاب الفساد السابق، وسط استمرار مظاهره والتغاضي عن بعض ممارسات التعذيب في سجون تونس ومخافرها.
في الأثناء تتكاثر التحديات.
في ليبيا المجاورة، تُقرع بصخب طبول التدخل العسكري الغربي لمحاربة إرهاب تنظيم “داعش” وأخواته، مؤذنة بفتح مستنقع جديد للاضطراب والفوضى العابرة للحدود.
وهناك خشية شعبية من أن تواجه تونس حركة لجوء مكثفة على غرار ما حصل العام 2011، مع إمكانية تعرضها لضربات انتقامية من “داعش” الذي يتهمها بالضلوع في إسناد التدخل العسكري المدعوم دوليا والمشاركة فيه مباشرة. ويطفو على السطح خطر استغلال الوضع المتوتر من قبل “الإرهابيين” التونسيين المقيمين في ليبيا أو العائدين إليها من سورية، لدخول تونس واستعادة نشاطهم المتطرف، مستغلين ارتفاع الأسعار والأزمة الاقتصادية الخانقة. في الأثناء، تواصل وسائل إعلام نشر أخبار متواترة عن اعتقال خلايا إرهابية وتشديد الإجراءات الأمنية على الفنادق و”المولات” ومطار قرطاج الدولي، وسط الخشية من اختراق المؤسسة الأمنية منذ العام 2011.
قبل أسابيع، عصفت بتونس موجة احتجاجات عنيفة للمطالبة بالتشغيل، ما أجبر الرئيس الباجي قائد السبسي على إعلان حظر التجول لساعات خلال الليل وإعلان حالة الطوارئ. ثم تراجعت الحكومة عن ذلك، بعد عودة الهدوء النسبي مطلع الشهر الحالي. تلك الاحتجاجات كانت الأسوأ منذ 2011، وطالت ولايتي القصرين وسيدي بوزيد، ومدينة القيروان، والأحياء الشعبية في العاصمة على غرار حي التضامن معقل التيارات الدينية.
وتواجه الحكومة صعوبات مالية بسبب عجز الموازنة بنسبة 4 %، وسط توقعات بأن تسجل أجور موظفيها رقما قياسيا في العام الحالي، بحدود ستة مليارات دولار، تعادل تقريبا نصف الموازنة المقدرة بـ15 مليار دولار. وتتراجع نسب النمو في البلاد لتقارب الصفر، بينما تتعمق أزمة البطالة، وسط تسريح آلاف العمال في المصانع والفنادق على وقع ثلاث هجمات إرهابية أثرّت على قطاعي الاستثمار والسياحة.
لكن من المستبعد أن يتخلى المجتمع الدولي عن تونس ويتركها وحيدة في مواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وبخاصة على الحدود مع ليبيا. ويصر دبلوماسيون أن على بلادهم واجب دعم قصة النجاح الوحيدة التي تمخضت عنها الثوارت العربية بكل الطرق الممكنة.
وفد من صندوق النقد الدولي سيبدأ قريبا زيارة إلى تونس لفتح مفاوضات حول برنامج ائتمان جديد، يرجح ألا تقل قيمته عن 1.7 مليار دولار. ومن المقرر أن تحصل تونس على نصف مليار يورو من الاتحاد الاوروبي لدعم اقتصادها.
وبانتظار ما سيسفر عنه برنامج حكومة الصيد الأخير لإيجاد فرص عمل في المحافظات الفقيرة التي تعاني نقصاً في التنمية ضمن خطة خمسية، فإن المعارضة تحذر من أن الاحتجاجات مرشحة للتصعيد. 
في غمرة هذه التحديات، يستمر تفكك وانشطار حزب “نداء تونس”، الذي حصد غالبية مقاعد البرلمان في الانتخابات الأخيرة وأفرز رئيسا للبلاد، هو السبسي.
المواجهة الداخلية بلغت ذروتها بعد مؤتمر سوسة بداية العام الحالي، عندما لامست المناوشات حدود تبادل العنف والتراشق بالتهم بين أنصار شقين متنازعين داخله: الأول، برئاسة حافظ قائد السبسي، ابن الرئيس؛ والثاني بقيادة أمين عام الحزب محسن مرزوق، الذي أدار حملة الرئيس في الانتخابات. واليوم، يعكف مرزوق على إطلاق حزب جديد، بينما فقد “نداء تونس” الأغلبية البرلمانية ليصبح في المرتبة الثانية بعد حركة النهضة (الإسلامية) التي قادت حكومة تونس بين العامين 2012 و2014.
النهضة لها وزير واحد في الحكومة، ما يبعد عنها أوزار تحمل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية. وهي ما تزال تحتفظ بقاعدة متماسكة، بخلاف “نداء تونس”، وعينها ترقب الانتخابات البلدية والتشريعية المقبلة. وتستعد “النهضة” لمؤتمرها التاسع لحسم ملفات شائكة كمحاولة الفصل بين النشاط الدعوي والسياسي.
في الأثناء، يشعر عديد توانسة بأن ساستهم من الأطياف كافة خذلوهم، مدفوعين بانتهازيتهم وسعيهم إلى جني مكاسب شخصية وفئوية ضيقة على حساب مصلحة الوطن العليا. عديدهم بدّل الشكل وليس المضمون. وهناك حنين للماضي وإلى حكم “الرجل القوي” والحزب الواحد، بدلا من كوكتيل “ائتلاف” أحزاب؛ نداء تونس، والنهضة، وآفاق تونس، والوطني الحر.  ففي الحكومة اليوم خليط غير متجانس من الإسلاميين واليساريين والليبراليين والدستوريين والمحافظين، لكل منهم حساباته ورهاناته، بما يؤثر على عملية اتخاذ القرار ووضع السياسات.
خلال الشهرين الماضيين، استخدمت الحكومة قانون مكافحة الإرهاب للتحقيق مع مجموعة من الصحفيين، وبالتالي أطلقت جدلا سياسيا ومهنيا حيال الخطوط التي تفصل بين المهنية الإعلامية ودعم الإرهاب والترويج له. يحدث ذلك وسط خشية من بدء مقايضة بين “الأمن والاستقرار وحقوق الانسان وحدود الحريات الإعلامية من جهة، ومحاربة الإرهاب من جهة أخرى”.
المشهد التونسي بات مفتوحا، إذن، على احتمالات شتّى، أحلاها مر.
لكن من قال إن التغيير يأتي بين ليلة وضحاها من دون تضحيات؟!
مهما بلغت مناسيب التحديات التي تعصف بتونس هذه الأيام، فإنها تظل قصة نجاح الثورات العربية، ومثالا حيا على إمكانية الانتقال التدريجي على سكّة الديمقراطية، بدلا من العودة إلى دكتاتوريات الماضي عبر اللعب على تخويف الناس من مآلات محاولات الانعتاق في سورية وليبيا واليمن.
تونس خرجت بأقل الأضرار الممكنة مقارنة مع سائر الدول العربية التي زعزعتها هذه الحراكات الشعبية والانقلابات الدموية. وستبقى أنموذجا عربيا نادرا لدولة مدنية، دينها الرسمي الإسلام، بمجتمع يعكس الاعتدال والتسامح والانفتاح على الآخر، وبمجتمع مدني أقوى من المجتمع الحزبي. غالبية شعبها قرر تجاوز تناقضاته عندما قبل بدستور وفاقي، ونجح في تنظيم انتخابات شفافة بمعايير دولية. والغالبية، حال مؤسسات الحكم والمعارضة، تدرك أن “لبننة” أو “صوملة” تونس ليست الحل. فهذه المكاسب مثار حسد العديد من العرب.
ستثبت تونس أنها قادرة على حماية جائزة نوبل للسلام التي حصدها الرباعي الراعي للحوار الوطني العام 2014، والتي تبقى أفضل تعبير عن ثراء التجربة التونسية بإيجابياتها وسلبياتها منذ الثورة.
—————-
*نقلاً عن جريدة “الغد” الأردنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى