أربع ليالٍ سوداء صد فيها المقاومون موجات هجوم انتحارية، في كل ليلة كانت الجثث تتناثر أمام متارس المقاومة في عصيفرة، الجهة الشمالية من مدينة تعز، بعد ما نجح الحوثيون بإسقاط (الستين) والتقدم نحو (المقوات). كانوا يرونها المنفذ الأسهل لإسقاط المدينة كلها.
القائد (مريم)
أربع ليالٍ سوداء صد فيها المقاومون موجات هجوم انتحارية، في كل ليلة كانت الجثث تتناثر أمام متارس المقاومة في عصيفرة، الجهة الشمالية من مدينة تعز، بعد ما نجح الحوثيون بإسقاط (الستين) والتقدم نحو (المقوات). كانوا يرونها المنفذ الأسهل لإسقاط المدينة كلها.
في الليلة الخامسة كانت مجهزة بدقة للاقتحام، واستكمل فيها كل التعزيزات.
بعد المغرب، يتحدث قائد المجموعة الحوثية (ابو سعيد) لشباب المقاومة القريبين من مترسه: “الليلة ليلتكم يا دواعش”.. كنوع من الحرب النفسية، كانت المسافة قريبة من بعضها تحسب بالأمتار.
رد له عبد الرحيم:
– نعم، اليوم يومك يا (بو سعيد)، سنرمي بك الليلة إلى جهنم
— هههه يا (خضعي)، انتهت المهلة خلاص الليلة حاجة ثانية قل لأصحابكم الكبار يلبسون شراشف ويهربوا… نصيحة.. عندما نصل الليلة لن نرحم أحداَ.. قتلتم خيرااات.
كان(عبدالرحيم) شاباً جامعياً في العشرينات، كبير بروحه وثقافته، يتوقد ذكاء؛ وجه سؤالا لمحدثه:
يا (بو سعيد) أنت قنديل و الا زنبيل؟
يسكت (ابو سعيد)!
– عبدالرحيم:
ما لك سكت؟ يعني من السادة والا من العبيد.. إنسان عادي والا ملون؟
يضحك زملاء عبدالرحيم الذين يستمعون للحوار، فيرتفع صوت (ابو سعيد) غاضباَ: يا خضعي غصباً عنك أنا خادم للسيد، والسيد سيدك و سيد العرب والعجم.
— لالا يا (بو سعيد) سيدك أنت، أما أنا فسيدي هو الله وعلى هذا نقاتل.
— السيد سيدك وسيد ابوك و أب أب أبوك يا داعشي.
— بس والله أنا زعلان عليك يا (بو سعيد).
— على مه زعلان عليا، لأني باذبحك بعد قليل يا داعشي.
— لا أنا زعلان لأنك مش(سيد)، وجثتك ستبقى مرمية وأنت عارف هم لا يسحبون إلا لوفي (قنديل) و يخلوك وأمثالك من(الزنابيل) للكلاب، و أنت داري يا بو سعيد! لكن و عد مني أن نكرمك بالدفن.. اطمئن.
صمت( أبو سعيد) وكمن سقط في بير.. ثم تحدث بفتور، وهو يحاول أن يتماسك: والله إنك شيطان يا داعشي و أعوذ بالله منك!!
يلتفت أحمد إلى زميله عبدالرحيم وهو ينظف سلاحه: خلاص و الله إنك قتلته يا عبد الرحيم حقه معه.
بعد ساعة تقريباً، يبدأ هجوم غير مسبوق، بدأ بكثافة أسلحة ثقيلة وصواريخ تسقط على كل مواقع الجبهة الشمالية وتحديدا عصيفرة..
أحرقت الأرض وتغطت السماء باللهب، وتحت هذا الغطاء الكثيف تم التقدم نحو مواقع المقاومة!
ثلاث ساعات من الهجوم الشرس امتصه الشباب بما يشبه المعجزة، ولم يتقدم المهاجمون شبراً واحداً، لكن الموقع الذي فيه (عبدالرحيم) و(أحمد) فيه نقطة ضعف، توشك أن تسقط الموقع. فالذخيرة نفدت ولا أمل في المدد.
الذخيرة نقطة ضعف قاتلة، فوحدها من تجبر الشباب على التراجع..
أمر قائد الموقع بالانسحاب التدريجي وبقاء من تبقى لديهم
ذخيرة يغطون الانسحاب، كان أحمد و زميلان له فقط من تبقى لديهم من نص أو ربع قرن، قاموا بالتغطية وانسحب الجميع ماعدا (أحمد) فقد سقط مضرجا بدمائه في آخر لحظة.
كان جرح (أحمد) متوسطاً، وتمكن من الزحف إلى قرب أحد البيوت وبالتحديد أمام بيت (مريم)، وهي امرأة في الخمسينات ممن رفضن النزوح وتعتبر البقاء جزء من المقاومة..
لم تنم (مريم) ولا جيرانها، فهم يتابعون المعارك كل يوم ويدعون الله أن تمر معركة الليلة الأشرس على خير؛ هي أحست باقتراب الحوثيين، وعندما خرجت إلى الشباك رأت (أحمد) ممدداً، وهو يتلوى وبدون أن تفكر خرجت بسرعة لإدخال الجريح؛ كانت تحس أن التأخر سيجعله فريسة بأيديهم. طلبت منه أن يساعدها وهي تتأهب لحمله..
لكن( أحمد) وبألم حاول أن يقول لها لا فائدة فلن تستطيعي إنقاذي، وقبل أن يكمل حديثه، وضعت يدها على فمه وهي تقول بصوت خافت: أصه أصه يا بني…
وبخفة عجيبة حملته إلى داخل البيت، و بدأت فورا بربط الجرح بشدة وأخرجت من الدولاب حبوب قالت إنها تساعد على توقف النزيف، وبدون تردد أو سؤال شربها أحمد.
كان الفجر يوشك على البزوغ، وهدوء ما بعد المعركة يخيم على المنطقة، حتى الكلاب لم تعد تنبح كالعادة وهي تمشي تتشمم الأرض بصمت مذعور، والعصافير تضرب بأجنحة ثقيلة ممتنعة عن الزقزقة، والجثث مرمية على الأزقة والطرقات، وبيوت مدمرة هنا، وسيارات محترقة هناك، والمدينة نامت بعد الفجر على خبر الصمود المدهش وكسر الهجوم!!
صباحا خرجت (مريم) وعلى رأسها دبة ماء فارغة متظاهرة بجلب ماء للشرب، وعندما منعها مسلحو الحوثي توسلت إليهم فهي بحاجة لشربة ماء و أخبرتهم أن(الدواعش) منعوها أسبوعاً من الخروج، وهي الآن تترجاهم لتركها وفي الأخير نجحت بالمرور، وذهبت مباشرة إلى السوق حيث تجمع المقاومة، أو قفت أحدهم وعرضت عليه بطاقة أحمد: تعرفه اذه يا بني؟
— أيوه هذا أحمد استشهد أمس الله يرحمه.
– لا يا بني ما استشهدش هذا جريح في بيتي عملتوا اللي قدرتوا والباقي عليكم لو تأخر شيموت.
اجتمع شباب المقاومة وبسرعة عملوا خطة هجوم لإنقاذ أحمد بعد أن حددت (مريم) لهم موقع البيت، وعرفوها جيداً، والأكثر من ذلك أنها قالت لهم ممكن تنقذوه من خلف البيت هناك (شباك) مفتوح يمكن إخراجه…
عندما عادت (مريم) كانت قد أخبرت أحمد بأن يستعد بجانب (النافذة) الخلفية، وحاولت حمله فلم تستطع: ثقيل لمو اكه؟؟
واضطرت لسحبه على الفراش سحباً.
قال لها (أحمد) وهو بجانب النافذة:
كيف أمس حملتينا كذه يا مه؟ واليوم أنا ثقيل؟
— و الله مالي علم.. الملائكة الملائكة حملتك معي يا بني، الله يشفيك وينصرنا على من تعدى علينا لا بيوتنا.
تم الهجوم ونجحت خطة الإنقاذ وحملوا أحمد بعيدا إلى المستشفى.
بعد يومين ذهبت (مريم) تسال عن حال (أحمد) استقبلها قائد المجموعة بترحاب شديد ممتنا لموقفها قال لها بفضل الله ثم بفضلك يا خالة (أحمد) بخير، وهو يستعد للعودة للقتال.
— هيا بشرتني يا بني، الحمد لله والله قلبي يحرق علوه قلتوا أجي اشجن.. الله ينصركم وداعة الله..
تحسس قائد المجموعة جيبه فلم يجد سوى خمسة ألف ريال فهو ظن أنها ربما منتظرة مكافأة خاصة في الأوضاع الصعبة وحتى لولم ترد، هي فهي تستحق أكثر.
مد لها الخمسة الألف: يا خالة والله ما معي إلا هذه.
— الله يسامحك يابني مو اجيتو اشتي (بياس)، أنتم درعنا وجدارنا تقل لي (بياس)! احنا اللي مقصرين ..غاضبة: الله المستعان عليك.
— خلاص عفوا يا (خاله) أنت اللي عملتيه مش قليل.
— أني عملتوا واجبي، لمو البلاد حقكم و الا بلادنا و مدينتنا كلنا؟!
اسمع شقلك ما ذلحين.. (تخرج خاتمها الذهبي):
أني ما معي إلا هذا لكن خذه هنيا.
وعندما رفض أخذ الخاتم. قالت بحزم: ما عليك مش لك ودوه للمقاومة وأني كنت اليوم شتبرع به بالحارة شله.. شله يابني كل حاجة فأني وما يبقي إلا الشرف و الرجال.. مع السلامة ..
أعطته الخاتم وانصرفت.
كان بجانب قائد المجموعة خمسة من بينهم (عبد الرحيم) يشاهدون ما دار؛ كانوا يلحون عليه بإجازة يومين أو ثلاثة، وعندما جاءت (مريم) كان يقنعهم أن الوقت غير مناسب، وعاد محاولا استكمال اقناعهم.
– يا شباب الوضع مش…. وقبل مايكمل قال له (عبدالرحيم) خلاص يا أستاذ..(مريم) قامت بالمهمة، ألغينا طلب الإجازة بس نشتي خطة عاجلة لتحرير حارة (مريم) والموقع اللي بجانبه.
فاروق: أيوه صح. والله اليوم أنا أخذت درسا للعمر من خالتي (مريم)، لو حضر أكبر قائد وأكبر عالم، ما أثروا بي مثل (مريم).. أو القائد (مريم)!
اسميها القائد(مريم).
– الرجال والنساء كلهم مثل (مريم)، يربطون آمالهم علينا يا فاروق يقول قائد المجموعة.
كان هذا الحوار صباحاً..
في فجر اليوم التالي كانت حارة (مريم) وما حولها محررة، استعاد الشباب الحارة والمواقع التي خسروها في معركة الاسترداد الأخيرة. قتل أكثر من ستة حوثيين، سحب الحوثة جثة واحدة واستماتوا لسحبها، وتركوا خمس جثث كان منهم ( أبو سعيد)، صاحب (عبد الرحيم).
قال عبدالرحيم: والله يا جماعة أنا زعلان على ( أبو سعيد ) من صدق.. الله يرحمه.
قال (صالح) معترضاَ: الله يرحمه قل الله لا رحمه، و لا أسكنه الجنة.. هذا قاتل!
استغفر الله يا عبدالرحيم.
— استغفر الله في كل حال، لكن أقول الله يرحمه و يرحمهم كلهم هولاء، إخواننا ضحايا، مغيبين يا (صالح)؛ هم الآن يحسبون أنهم يقاتلوا كفار ويغزون (بني قينقاع)!!
…قل الله لارحم من غرر بهم و دمر البلاد من أجل حكم الناس و استعبادهم.
الآن علينا القيام بإكرام الميت ودفنهم. تم تكليف ( فاروق) بالتواصل مع (الهلال الأحمر) لإتمام الدفن.
يلتفت عبدالرحيم للمجموعة: مبروك علينا النصر، بس تدروا لمن نهدي هذا النصر؟
قال(علي): لأخينا أحمد.
قال (صالح ): للشهداء.
— عبدالرحيم: هذا النصر تحديدا نهديه لأمنا (مريم).
أيوه للقائد (مريم).. يقول فاروق.
— نعم يا فاروق نهديه للقائد (مريم).
وللناس الذين نستمد منهم، بعد الله، النصر والروح والشرعية.