سيرانو دي بيرجراك: غنائية الشاعر المحروم من الحب
مروة صلاح متولي
قدمت مسارح برودواي غنائية سيرانو دي بيرجراك عام 1973 كمعالجة موسيقية لمسرحية الكاتب والشاعر الفرنسي إدمون روستان، التي كتبها عام 1897، ولحكاية سيرانو الشاعر المحروم من الحب جمالها الدائم، وقدرتها على اجتذاب الشعور، من خلال أشكال وجودها المتعددة، سواء في نصها الأصلي، أو ترجماتها العربية، التي من أشهرها ترجمة مصطفى لطفي المنفلوطي، وكذلك معالجاتها السينمائية الأجنبية، وأطيافها الملحوظة في بعض الأفلام العربية القديمة.
أما سماع هذه الحكاية مغناة من خلال ألبوم برودواي فله جمال آخر، وكأنه يعيد سيرانو إلى موسيقيته الأولية، وإيقاعاته التي تخلقها كلماته المرتجلة أثناء المعارك، فقد كان جندياً شجاعاً ومبارزاً يخافه الجميع لا يهزم بسهولة، كما كان ذكياً مرهف الحس، يمتلك الكلمة التي تسحر النساء، لكنه لم يعشق سوى امرأة واحدة فقط، هي قريبته روكسان اليتيمة الوحيدة التي ليس لها من أحد في الدنيا سواه، ويحيط بها الكثير من الرجال الذين يرغبونها لجمالها الشديد، بينما يراقب سيرانو كل هذا من بعيد، ولا يحاول أن يعبر عن حبه لها ولو بكلمة واحدة، لأنه يرى نفسه دميماً بسبب أنف هائل عظيم، أو قدر غريب عليه أن يحمله ويواجه به العالم، وأن يتعرض لسخرية الآخرين من خطأ لم يرتكبه وعيب لم يصنعه، وكان يقضي بعض أوقاته في ضرب هؤلاء الساخرين والقضاء عليهم، فإن هذا النوع من البشر يكون أسوأ من الأقدار دائماً، فمن الممكن تحمل القدر السيئ، في علاقة ثنائية بين المرء وربه، لكن من المستحيل تقبل أو التسامح مع من يفرح بهذه الأقدار السيئة، ويتعمد إيذاء من ابتلي بها ليضاعف جحيمه.
كان سيرانو نبيلاً إلى حد بعيد، وكان يحب ويعبر عن حبه بطريقته الخاصة، أو بالطريقة المسموح له بها، حسب ما يظن، لم يتحول إلى شخص حاقد يبغض الحب والمحبين، ويتمنى أن يُحرم الجميع مما حرم هو منه، بل كان يسعى إلى تحقيق الحب وخلقه خلقاً، حيث جعل من حبه لروكسان عملاً وجهداً دائماً من أجل إسعادها السعادة الكاملة، بأن منح كرستيان الرجل الوسيم الجذاب، أجمل شعره وأرق كلماته لكي يحظى بروكسان، ولكي تحصل هي على كل شيء ولا تضطر إلى الاختيار ما بين الجمال الخارجي والجمال الداخلي، ولدينا في مصر مثل قصير ومختصر يلخص هذه المسألة، ومع أنه من غير اللائق بالطبع تشبيه الإنسان بالحيوان، إلا أن المثل يقول: «قرد يصافيني ولا غزال يغمني» ويعني أن الاختيار سيكون في صالح من له طيب الوجود وجميل الأثر في حياة المرء، لا من يجلب الغم ويحقق النكد ويجعل الحياة مريرة، وإن كان جميلاً باهر الجمال، لكن سيرانو كان يظن أن المرأة بشكل عام يخدعها المظهر، ويجذبها الرجل الوسيم الأنيق، وليس لديها العقل الناضج الذي يقودها إلى الصواب، ولا تمتلك الحكمة الكافية التي تمكنها من النفاذ إلى الجمال الخفي داخل أعماق النفس، وكان سيرانو رغم فروسيته ونبوغه الشعري، يفتقد الثقة في نفسه بسبب مظهره، وكذلك كان كرستيان رغم وسامته يفتقد الثقة في نفسه أيضاً ولا يجرؤ على مصارحة روكسان بحبه، لأنه لا يمتلك الذكاء واللباقة، ولا يستطيع صياغة مشاعره في كلمات تجذب سمع الحبيبة وتأسر قلبها، ولما كان من المستحيل أن يستعير سيرانو وسامة كرستيان، قرر أن يعيره كلماته، وأن يدفعه نحو روكسان ويشجعه على الاعتراف بحبه لها، ويصل الأمر إلى أن يكون بجواره في لحظات الغرام ليلقنه الكلمة تلو الأخرى، عندما تقف روكسان في شرفة منزلها لتطل على العاشق كرستيان، بينما يختبئ أسفل هذه الشرفة العاشق الآخر والمحب الأكبر سيرانو، الذي يدير المشهد الغرامي بأكمله منذ بداية التعارف وصولاً إلى القبلة الأولى.
الجميل في غنائية برودواي هو السرد الموسيقي لأحداث النص المسرحي والتعريف بشخصياته وعقدته الدرامية، حيث يمكن للمستمع الذي لم يطلع على النص من قبل أن يلم بجوانب الحكاية الأساسية، من خلال الأغنيات التي تتناول مشهداً من المشاهد، أو حدثاً معيناً أو مشاعر الشخصيات ومخاوفهم وحواراتهم الداخلية، وتبدو موسيقى العمل حديثة إلى حد ما، لكنها تحمل طابع أعمال برودواي التقليدية، وذلك التنوع المعتاد في الألحان ما بين الإيقاعي الراقص والرومانسي البطيء، والغناء الفردي والثنائي والجماعي والإلقاء الملحن، والتركيز على إظهار مهارات الصوت بدرجة كبيرة، بالإضافة إلى الأداء الدرامي الذي لا غنى عنه بطبيعة الحال، لأن الغناء في مثل هذه الأعمال يقترب من التمثيل أو يتداخل معه، فالمغني الذي يؤدي قطع سيرانو عليه أن يكون سيرانو وأن يعبر عن غضبه في أغنية «أنفي» حين يهاجم الآخرين ويهددهم ويسألهم لماذا تنظرون إلى أنفي، وعن آلامه في أغنية «وحيداً» التي تصف وحدته ومواساته لنفسه وتهيئتها لتحمل تلك الوحدة إلى الأبد، وعن غرامه في أغنية «روكسان» ووصفه لها بأجمل الأوصاف، وحزنه لأنه لن يكون أبداً الحبيب المناسب لها، كما أنه يمكن لأغنية واحدة فقط أن تقدم شخصية من شخصيات النص المسرحي بحكايتها الكاملة، من بدايتها وحتى نهايتها كأغنية «المعجنات والشعر» التي يتعرف السامع من خلالها على شخصية راغنو الطاهي صاحب المطعم الفاخر، وهي أغنية لطيفة كتلك الشخصية التي أبدعها روستان في مسرحيته، وفيها تمتزج أسماء أصناف الطعام بأسماء الشعراء والكتاب، كما يقول راغنو بأن الطبخ فن أيضاً كالشعر، وراغنو شخص يجيد الطبخ ويحب الشعر والأدب والتمثيل، ويفتح حانوته للفنانين ويطعمهم مجاناً، وينظم الشعر أيضاً، إلا أن موهبته ضعيفة، وعندما أغلق حانوته وقرر أن يترك مهنته ويصير شاعراً خسر كل شيء، وهجرته زوجته وصار بائساً مشرداً، وعن هذا يقول المنفلوطي في ترجمته «أدركته حرفة الأدب» وهذا التعبير ليس من صنع المنفلوطي، لكنه تعبير عربي قديم كان سائداً في مصر في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي على الأرجح، ولا يعني أن الشخص قد احترف الأدب وصار أديباً، وإنما يعني أنه صار موعوداً بالفقر وضاع مستقبله.
حتى القبلة الأولى بين روكسان وكرستيان جعلها الكاتب معقدة، رغم بديع وصفه لها على لسان سيرانو، ومؤلمة بقدر حزن هذا المسكين المختبئ تحت الشرفة، يمنح غيره ما هو محروم منه ولن يناله أبداً.
ويحتوي العمل على أكثر من دويتو كأغنية «الصيف في بيرجراك» التي يغنيها سيرانو مع روكسان، ويتذكر كل منهما أيام الطفولة والسعادة والضحك، وهي من أجمل الأغنيات التي ينساب فيها الصوت البشري مع ضربات البيانو بتناغم هادئ، وأغنية «العاشق المثالي» الكوميدية تماماً التي يغنيها سيرانو مع كرستيان، وهي توضح الاتفاق بينهما على أن يمنحه سيرانو كلماته التي ستجعله يفوز بروكسان، ويعدد سيرانو مواهبه وقدراته، بينما يكرر كرستيان كلمات قليلة جداً تصف مواهبه المحدودة، التي لا تزيد عن مظهره وابتسامته، ومن الأغنيات المهمة التي تحمل الكثير من روح المسرحية وأجوائها أغنية «الغاسكونيون» التي تغنيها المجموعة على إيقاعات الغيتار الإسباني، وتردد نحن الغاسكونيين الله يحب الغاسكونيين، وربما تربط هذه الأغنية سيرانو دي بيرجراك الحقيقي الذي عاش في عصور سابقة بأصوله التي يقال إنها أندلسية، ومن الأغنيات الأكثر حزناً أغنية «اعتن به» التي تطلب فيها روكسان من سيرانو الاعتناء بحبيبها كرستيان قبل ذهابهما إلى الحرب، أن يدفئه ويبقيه بعيداً عن الخطر، ويمنعه حتى من ركوب الحصان، وأن يجعله يكتب إليها في كل يوم، فيعدها سيرانو بأنه سيفعل كل ما في وسعه، وعليها يريدها أن تتذكر أنها الحرب في النهاية، لكن الشيء الوحيد الذي يضمنه لها هو أن الرجل الذي يحبها حد العبادة سوف يكتب إليها في كل يوم، أما أغنية «كلماتي على شفتيه» فهي تذكر بمشهد الشرفة والقبلة الأولى بين روكسان وكرستيان، وما لهما من أهمية في النص المسرحي، ويبدو أن إدمون روستان كان يكتب نسخته الخاصة من روميو وجولييت، التي تعكس صورة أخرى للغرام بائسة تماماً وغير مريحة للقارئ، وتمنعه من الاندماج على الرغم من جمال كلمات الحب وتعبيراته، والتضحية الكبيرة التي يبذلها سيرانو، من أجل أن يمنح روكسان الحب ويوصله إليها بطريقة أو بأخرى، وأن يُسمعها أعذب أشعاره عن طريق وسيط جميل المظهر، لأن هناك دائماً الشعور بضياع الحب بين ثلاثة عشاق، لا يعيش أي منهم شعوراً حقيقياً مكتملاً.
فروكسان لا تعلم أنها تهيم بكلمات سيرانو التي لا يستطيع كرستيان أن يأتي بمثلها، وكرستيان ليس متأكداً من أن روكسان ستظل تحبه، إن توقف سيرانو عن إمداده بكلمات الحب، وسيرانو يواسي نفسه ويصبرها بأن روكسان وإن كانت لا تحبه فإنها على الأقل تحب كلماته التي تسمعها من كرستيان، ومشهد الشرفة من المشاهد المتميزة حقاً في هذه المسرحية، فهو يخلق صورة مغايرة لمشهد الشرفة الشهير والأساسي في روميو وجولييت، بعيداً عن السعادة الخالصة بين العاشقين الصغيرين قبل أن تصيبهما ضربات القدر، حيث يرى الكاتب إدمون روستان، أن الأمر قد يختلف تماماً، وأن هذه الشرفة قد تحمل جولييت أخرى لا تعرف من تحب حقاً، وقد يقف أمامها روميو آخر أشبه بالدمية الناطقة، وقد يختفي أسفلها نسخة بائسة جداً من روميو، كما جعل روستان شخصياته الثلاث، يخسرون جميعاً في النهاية، حيث يُقتل كرستيان في إحدى المعارك، ويصاب سيرانو في رأسه ثم يموت بين ذراعي حبيبته روكسان، وهو يقرأ لها خطاباً من خطابات كرستيان من ذاكرته دون أن يمسك بورقة في يده، فتعرف أنها كانت تعيش حباً وهمياً، وأنها كانت واقعة في غرام كلمات سيرانو، وأنها خسرت كلا من الحب الحقيقي والحب المزيف، وتقضي ما تبقى من حياتها في الدير.
حتى القبلة الأولى بين روكسان وكرستيان جعلها الكاتب معقدة، رغم بديع وصفه لها على لسان سيرانو، ومؤلمة بقدر حزن هذا المسكين المختبئ تحت الشرفة، يمنح غيره ما هو محروم منه ولن يناله أبداً، وقد ترجم المنفلوطي كلمات روستان عن القبلة قائلاً: «هي الميثاق الذي يعطى عن قرب، والوعد الصادق الذي لا ريبة فيه، والاعتراف بالحقيقة الواقعة، والنقطة المرقومة تحت باء الحب، والسر العميق الذي يصل إلى القلب من طريق الفم، واللحظة الأبدية التي يقصر زمنها وتدوم حلاوتها، واتفاق الخاطرين على معنى واحد، والطريق المختصر لاستنشاق رائحة القلب، وتذوق طعم النفس على الشفاه» وتبقى كلمات سيرانو أثناء القبلة من أجمل ما يُقرأ في النص ويُسمع في الأغنية، عندما يقول: إنها تقبل كلماتي على شفتيه.
نقلا عن القدس العربي