لا أكاد أصدق أن خمس سنوات مرت على تلك اللحظة الحاسمة في الثورة المصرية التي توجت حلماً عربياً عارماً بدأ ولم ينته بعد. عموماً أجمل الأحلام هي التي لا تنتهي، حتى وإن ظننها أنها تحققت وصارت واقعاً.
لا أكاد أصدق أن خمس سنوات مرت على تلك اللحظة الحاسمة في الثورة المصرية التي توجت حلماً عربياً عارماً بدأ ولم ينته بعد. عموماً أجمل الأحلام هي التي لا تنتهي، حتى وإن ظننها أنها تحققت وصارت واقعاً.
يومها، كانت ثورة الياسمين في تونس ما زالت تلملم أطرافها في كيانها البعيد، ما بين الحقيقة والخيال، لتتكون على المتن المغربي للخريطة العربية. وكان المشرق يغلي في القاهرة التي بقيت ساكنة وساكتة، على الرغم من قهرها عقوداً طويلةً في همها وهمنا كلنا، حتى تفجرت أخيراً في ميدان التحرير، حقيقة لا تخطئها عين من عاشها فعلا في ميدان التحرير وحوله، وبين من راقبها وتابع تحولاتها على شاشات التلفزيونات في مصر وخارج مصر.
فكّرت، وأنا أستعد لكتابة هذا المقال بمناسبة الذكرى الخامسة لثورة مصر، أن أعود، الآن، إلى أرشيفي الصحافي، وأقرأ ما كتبته في مقالٍ قبل أيام قليلة من حسمها بتلك اللحظة التي انكسر فيها الرئيس وراء الشاشة مخلوعاً بشكل نهائي، عمّا سمّيته طوفان الشعب، وهو يجتاح طغيان السلطة في أجمل الثورات العربية.. حتى الآن. كنت حريصةً، كما يبدو، على أن أختم جملتي الواصفي بكلمتي “حتى الآن”، بانتظار ما سيأتي أجمل وأجمل؛ “فالطغيان مستمر هنا وهناك، والثورات لا تموت، حتى وإن غابت عن الوعي قليلاً أو كثيرا.
والثورة المصرية التي تصاعدت على مدى ثمانية عشر يوماً فقط قبل أن تنجح في تحقيق هدفها الأول شاهد على ذلك. فالطوفان البشري الذي انساب في خط متوازٍ مع خط النيل الخالد، وروّى وجدان مصر العطشى، أثبت أن مصر ليست هبة النيل وحسب، بل هي هبة المصريين أيضاً. والمصريون، أولئك القوم الصابرون على ابتلاءات السياسة، على الرغم من ابتسامات الطبيعة، على مر الأزمان، المكافحون بفيض الإبداع، وسيول الضحك والفرح وأنهار الفنون والآداب والعلوم، الضاربون في كل فج عميق من الجمال والاحتمال، الفنانون، التاريخيون، الحضاريون، الشعراء والروائيون، العلماء، السياسيون، المناضلون، الحمّالون للأسية والأسى، الكادحون، الطيبون.. قرروا أخيراً أن يقولوا كلمتهم الحرة، وأن يتحدثوا بصوت عال، وأن يستثمروا مواهبهم كلها في استرداد حريتهم وشخصيتهم، وأن يقفوا حراساً على حافة نبع روحهم الجميلة.
نضال “فيسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب” وغيرها من أدوات التكنولوجيا الحديثة ووسائلها التحم مع نضالات الشارع. ويوماً بعد يوم، رجالاً ونساء، شباباً وشيوخاً وأطفالاً، أقباطاً ومسلمين، في الداخل والخارج.. كلهم كلهم.. قرروا أن يتوحدوا قصداً، هم المتوحدون في طبيعتهم وفطرتهم القديمة، وأن يصدحوا بتلك الكلمة السحرية المكونة من حرفين فقط “لا”. صدحوا بها ليلاً ونهاراً، ورددها خلفهم من وراء الشاشات التلفزيونية والإلكترونية الكثيرون ممن تماهوا مع الثورة الشابة في كل بقاع الأرض، فأزهرت هذه الـ”لا” الكثير من “الورد اللي فتح في جناين مصر”.
صار للثورة قلب اسمه ميدان التحرير، وتحول ذلك القلب إلى بؤرة للرفض النابض بالغضب والأمل والمغذي للصورة بدم الشباب في كل مكان مصري وعربي أيضاً. حسناً.. هل هؤلاء هم المصريون حقاً الذين عنيتهم في مقالي مبهورة، ومعي العالم كله تقريبا بما أنجزوه في ثمانية عشر يوما؟ هل هذه هي نتائجها المرجوة، بعد أن طال المخاض بعد الأيام والشهور سنوات؟ هل هذا هو حصاد الصبر المصري المجنح بالأسية والأذى أخيراً؟ هل هذه هي سماحة النيل التي أسرت كثيرين ممن مروا على الهامش، وعبروا قبل أن تذيبهم الصحراء تحت سفح الأهرامات الخالدة؟ وأن أستعرض صور مصر للإجابة على أسئلتي في السنوات الخمس الأخيرة، أتوقف عند صور مدماة لثلاث فتيات مصريات، نماذج لكثيرين، هن؛ أسماء البلتاجي وسندس رضا وشيماء الصباغ اللواتي فتحن أعينهن في جنينة الثورة، قبل أن يغمضنها جثثا سقطن برصاص العسكر في شوارع الأسى التاريخي للمصريين الصابرين.. حتى الآن.
المصدر:العربي الجديد