غير مصنففكر وثقافة

حكاية معتقل!

*فكرية شحرة

داهموني كقطيع من الجياع لما في أيدي الغير، هم “لصوص الله” وليسوا مجاهدين في سبيل الله، نبشوا كل شيء في طريقهم وجمعوا كل ما وجدوه في ادراج المكاتب، محاضراتي في التنمية البشرية ظنوها خططا لمقاومتهم فجمعوها أدله لإدانتي أمام نفسي أما هم فكل ما دونهم مدان ودمه مباح قصتي لا تختلف كثيرا عن عشرات من قصص الذين اعتقلوا بلا سبب، ربما لأن هذه طريقتهم في فرض هيبتهم وسلطتهم كما يظنوا.
يومها كنت في مبنى المؤسسة منفردا لبعض العمل الخاص بي، حين دوى صوت انفجار زلزل المكان وأرعب المارين في الشارع ومن كانوا في البيوت المجاورة، من النافذة لم الحظ أي خراب أو حريق فأسرعت لإغلاق باب شقة المؤسسة بالمزلاج بالإضافة للمفتاح في قفل الباب، فكرت أنهم قد يقتحموا المؤسسة وأنهم ربما افتعلوا الانفجار بقنبلة صوتية كي يجدوا مبررا لاقتحامها أو اقتحام منزل آخر.
لم تمر دقائق قليلة إلا وقد انفتح باب الشقة بقوة رغم قفلها المحكم، ربما بألة صنعت لهذا الغرض، اندفعوا كالقرود داخل الشقة وأحاطوا بي من كل جهة مصوبين إلى جسدي رشاشاتهم الآلية وأندفع آخرون لتثبيت أطرافي بقبضاتهم، وتفتيشي بعنف، كأنهم يمزقون ثيابي من على جسدي، ويدسون في جيوبهم كل ما يصادفهم في جيوبي حتى الساعة وخاتم خطبتي الفضيّ، لو استطاعوا نزع ثيابي وارتدائها لفعلوا.
إنهم كقطيع من الجياع لما في أيدي الغير، هم “لصوص الله” وليسوا مجاهدين في سبيل الله، نبشوا كل شيء في طريقهم وجمعوا كل ما وجدوه في ادراج المكاتب، محاضراتي في التنمية البشرية ظنوها خططا لمقاومتهم فجمعوها أدله لإدانتي أمام نفسي أما هم فكل ما دونهم مدان ودمه مباح.
كانوا يسألونني عن الموظفين وأين يقطنون ومن هم ومن يمول هذه المؤسسة وأين مديرها؟ وأسئلة لا ينتظرون إجابتها بل نفيها كي يدفعوا في صدري وجانب وجهي رشاشاتهم بعنف وكراهية، وأمام خزانة المال الثقيلة الموجودة في حجرة المحاسب فقدوا رشدهم وهم يتخيلونها مليئة بالمال، طالبوني بفتحها وهم يكادون أن يفتحوا رأسي برشاشاتهم وصراخهم في وجهي بسبابهم ونعتي بـ”الداعشي العميل لأمريكا”، تلقيت ضربات موجعة في بطني و خلف ظهري بأعقاب أسلحتهم، بصعوبة اقتنعوا أنني لست حاوٍ حتى أفتحها دون مفتاح، حينها طلبوا مني حملها أو دحرجتها نزولا إلى “الطقم” الذي سيحملني إلى السجن للتحقيق.
كانت الخزانة ثقيلة بسبب المعدن المصنوعة منه، ولقصور تفكيرهم ظنوه ثقل ما بداخلها، كانت فارغة وكنت في قرارة نفسي سعيدا بخيبتهم القادمة رغم مهانتي في دحرجتها وسحبها درجات سلم المبنى نزولا وحتى سيارة الطقم الذي أصعدوني إليه بعد أن ربطوا ذراعي خلف ظهري، طوال الطريق إلى السجن حيث وصلنا كانوا ينهالون علينا بالشتم، من نحن؟ نحن اليمنيين من غير أتباع سيدهم، نحن كلنا بنظرهم “دواعش وعملاء لأمريكا”!
كانوا يرمقون خزانة المال بلهفة وهم يدعون الشرف والغنى وأنهم ليسوا بحاجة لأموالنا التي ينهبوها من جيوبنا أو بيوتنا ومقرات أعمالنا، أنها لدعم جهادهم في قتلنا وتطهير وطننا منا.
 نعم يفكرون بقتلنا بدعمنا ولست أدري هل يفكرون؟
تؤلمهم عبارة أنهم يكذبون كما يتنفسون، فيلقون بالتهم في وجهي لتبرير فسادهم وكذبهم، ويرددون في وجهي أنتم لا أعراض لكم يا خونة يا عملاء، ستهبون أمهاتكم وأخواتكم لأي أمريكي يدخل البلد!!
حين وصلنا مكان الاعتقال وبعد التحقيق مع كل من تم القبض عليهم في منطقة الانفجار تم أطلاق الجميع فيما عداي أنا، وجدت المشرف عليهم يوصي بي ويقول:
_اعتنوا بصاحب المؤسسة كثيرا.
وكان الاعتناء واضحا في معاملة لا تمت للإنسانية بصلة ناهيك عن وطن مشترك ودين واحد، تم وضعي في سجن انفرادي بالكاد امتد فيه لضيقه قد أمتلأ بأنواع الحشرات، مصمت من كل الجهات ما عدى فرجة صغيرة تعد نافذة، وخلال ثلاثة أيام لم أغادر ذلك المربع كان هناك من يمد لي بقطعة خبز أو شربة ماء من فرجة ما يسمى بنافذة، منعوا عني زيارة أي كان، وكل ما كان يصلني عبر البوابة ينتهي إليهم إلا النزر القليل، التحقيقات  كانت عبارة عن تهديد وتعذيب جسدي ونفسي، هناك رأيت أشخاص قد فقدوا القدرة على تحريك أطرافهم لشدة الضرب المتواصل عليها بتركيز يجعل اللحم يفسد ويصبح لونه أسوداً، كانوا يهددون بنزع أظافري إن لم أقل أسماء لـ”دواعش” كبار يحركون الشارع ضدهم في احتجاجات أو مظاهرات وهل لفلان دخل أم لا وهل علان اشترك في عمليه كذا أم من؟ كنت أردد على مسامعهم نفس الحديث: إنني مجرد حارس لمبنى المؤسسة ولا علاقة لي بأحد وأني يمني ولست داعشي  .
ذات ليلة أيقظوني في منتصف الليل تقريبا وربطوا عيني بقوة جعلت آلام وجهي لا تحتمل وأركبوني سيارة الطقم دون أن يخبروني إلى أين؛ وظلت السيارة تسير طوال الليل أحاول أن أرهف السمع أو أميز الطريق هل هي مرتفعات أم سهول أم أين سيذهبون بي؟ وحتى الفجر عادوا بي لنفس الزنزانة وأنا في حال من الانهاك الذهني والبدني والقلق والتوتر ما جعلني أسقط أرضا بإعياء حتى الظهر.
لقد كان يغيظهم مواظبتنا على الصلاة، فينعتونا بـ”الدواعش” كأن ديننا ليس دينهم فلم نجدهم يصلون أبداً مثل كل السجناء، الغريب أن من كان يصل إلى السجن في جريمة أخلاقية كان يعامل بشكل إنساني يصل للحفاوة، فقد وصل أثناء وجودي هناك رجلان بتهمة أخلاقية كانا يتاجران بإحدى النساء الساقطات، فاصبحا مشرفيْن على بقية السجناء ينظمان حركة المساجين.
ولعل المعاملة المتوحشة التي كنا نلاقيها هناك تهون أمام دروس العصر التي يلقيها واعظهم أبو(…) كانت تلقى من ملازم السيد الشهيرة والكل يستمع إجباريا ثم تؤدى الصرخة المعروفة إجبارياً أيضاً وكأن عقول الناس أوعية فارغة تنتظر أن تسكب فيها ما تريد من هرطقات.
لقد أيقنت وأنا أعيش بينهم لثلاثة أشهر أنهم ضحية من نوع ما، لقد غسلت عقولهم من كل معاني الإنسانية والتفكير بصوابية ما يفعلون هم على يقين أنهم يجاهدون أمريكا فينا نحن بني جلدتهم، وأن دماءنا وأموالنا حلالاً لهم، إنهم أشبه بقطيع من المنومين مغناطيسيا، تم السيطرة عليهم من نافذة الجهل، كيف حولوا الإنسان فيهم لعدو لكل شيء لست أفهم؟
لم يكونوا يثقون في أتباعهم ممن دفعتهم المصالح وشراكة التحالفات للرضوخ لهم، بل كانوا يقصونهم عن الأمور المهمة ويتركون لهم اتساخ الضمائر والأيدي بكل شنائع الأفعال.
جلست ذات مرة مع أحد أفرادهم تم إيداعه السجن كعقوبة له بعد أن تعارك مع آخر وفي معرض حديثي معه قلت له:
_لا أدري كيف تحتمل رؤية مشاهد القتل والدماء ألا تتمنى العودة لأهلك كي تعيش حياة طبيعية؟
قال متفاخرا:
_ لقد حملت بيدي هذه أكثر من ثلاثمائة جثة في معاركنا “بالضالع” وتعودت رؤية الدم حتى صار في نظري كالماء تماماً، إننا مجاهدون يا هذا والجهاد هو القتل في سبيل الله!!
نعم.. لقد الغي فيهم نعمة التفكير وأصبحوا أدوات قتل بأيدي طغمة لا علاقة لها بما يدور بين الطبقات السفلى من البشر، ألم يقسموا مجتمعنا إلى سادة وعبيد؟ إلى أصفياء وحثالة؟ إلى حكام ومحكومين بالموت من أجل هؤلاء السادة؟
 ومن أجل ماذا؟ من أجل الوعد الأزلي بدخول الجنة.
لقد كانوا يتاجرون بالمعتقلين الأبرياء كالسلع فيطلبون مبالغ هائلة مقابل اخراجهم ومن لم يدفع ينسى في معتقلاتهم ويموت جوعا ومرضا وحسرة من معاملتهم.
أنا لست نادما على تلك الشهور المريرة رهن اعتقالهم، فلها منافعها في تربية نفسي وتهذيب ذاتي وهي لم تذهب سدى في التحسر والحزن، لقد كانت فرصة لي كي أرى الوجه الأسود لمجتمع تفشى فيه الجهل والفقر؛ إنهم أضل من أنعامهم للأسف، وأعتقد أنني لن توجعني مستقبلا أي مصيبة بعد الذي لاقيت منهم.
لقد أصبحت أرثي لحالهم.. لجهلهم وقسوتهم لاستغلالهم من قبل سادتهم فهم مجرد عبيد وعبيد مأمورون باسم الرب.
الذي غيبني ثلاثة أشهر ومزق جسدي بإسلاك الكهرباء ومارس ضدي أقسى أنواع الإرهاب النفسي ليس القطيع من الوحوش، بل ذلك القاتل الخفي الذي يستغله المجرم الكبير، الجهل عدوي يا أستاذ (….) هو الذي حول جزء من شعبي إلى أداة قتل تتقرب للرب بقتل الجزء الآخر، الجهل الذي جعل سلالة تدعي القداسة وأنها الله في أرضه.
———-
 *نص من رواية للكاتبة قيد التأليف.
 
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى