في واحد من أكثر أشرطة الفيديو المؤثرة التي صُورت بعد سقوط كابل، يتابع صحافي مجموعة من مقاتلي «طالبان» إلى مستودع يضم مروحيات أميركية مهجورة ومعطلة. إلا أن المقاتلين لا يبدون كفكرتنا العامة عن «طالبان»: بالعتاد والبنادق والخوذ (المفترض أنها مسروقة) يبدون تماماً مثل الجنود الأميركيين الذين هزمهم التمرد طويل الأجل.
وكما أشار أحدهم سريعاً على «تويتر»، فإن مشهد حظيرة الطائرات استدعى بقوة ذكرى نهاية الإمبراطورية الرومانية، حيث وقف مقاتلو «طالبان» في صف «القوط الغربيين» أو «المخربين» الذين اقتطعوا لأنفسهم أجزاء من الثقافة الرومانية حتى عندما أطاحوا الإمبراطورية. ولبرهة من الزمن، أتاحت لمحة عن الهيئة التي قد يبدو عليها العالم لما بعد الإمبريالية الأميركية: ليس اختفاء لكل أعمالنا أو آيات الأبهة والعظمة، مثلما اختفت الثقافة الرومانية فجأة عام 476 ميلادية، لكن عالم من الناس يلهون مرتبكين بالمهازل الأميركية على أنقاض صادراتنا الرئيسية، والقواعد العسكرية، ومراكز التسوق.
لكن اللمحة التي ظهرت في الفيديو ليست بالضرورة لمحة مسبقة عن الانهيار الإمبراطوري الحقيقي. من نواحٍ أخرى، فإن فشلنا في أفغانستان يشبه إلى حد كبير الفشل الروماني الذي حدث بعيداً عن روما نفسها – أي الهزائم التي تكبّدها الجنرالات الرومان في صحاري بلاد ما بين النهرين أو في الغابات الجرمانية، عندما تجاوز نفوذ الإمبراطورية قبضتها المحكمة على مقاليد الأمور.
أو على الأقل هكذا أظن أنها ستظهر في الأضواء الخافتة لما بعد فوات الأوان، عندما يشرع مؤرخو الحضارات في المستقبل في سرد القصة الكاملة للإمبراطورية الأميركية البائدة.
هذه النظرة الباردة، التي استُمدّت من مكانٍ ما بعد قرون، قد تصف ثلاث إمبراطوريات أميركية، وليست إمبراطورية واحدة فقط. أولاً هناك الإمبراطورية الداخلية، الولايات المتحدة الأميركية القارية بالبلدان التابعة لمدارها في المحيط الهادئ والبحر الكاريبي.
ثم هناك الإمبراطورية الخارجية، التي تتألف من المناطق التي احتلها الأميركيون وأعادوا بناءها بعد الحرب العالمية الثانية ووضعوها تحت مظلتنا العسكرية: أي أوروبا الغربية وحافة المحيط الهادئ بالأساس.
وأخيراً، هناك الإمبراطورية العالمية الأميركية، التي توجد روحانياً حيثما حلّت قوتنا التجارية والثقافية، وبصورةٍ أكثر عمليةً في خليطنا من الدول والمنشآت العسكرية. بطريقة ما، هذه الإمبراطورية الثالثة هي إنجازنا الأكثر أهمية. ولكن اتساعها يقاوم حتمياً حالة الاندماج الكاملة، وهو نوع أكثر مباشرةً من السيطرة الأميركية.
من هذه الزاوية، فإن أوضح الهزائم الأميركية في عصرنا الإمبراطوري: أولاً في جنوب شرقي آسيا في ستينات القرن العشرين، ثم في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، كانت نابعة من فكرة متغطرسة مفادها أننا نستطيع جعل الإمبراطورية العالمية امتداداً بسيطاً للإمبراطورية الخارجية، وأن نجعل الترتيبات الأخرى من شاكلة حلف شمال الأطلسي عالمية، وأن نطبق نموذج اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية على فيتنام الجنوبية أو العراق أو الهندوكوش الأفغانية.
ولقد شهدنا إخفاقات مماثلة، مع قدر أقل من إراقة الدماء، ولكن مع عواقب استراتيجية أكثر أهمية، في إطار جهودنا الأخيرة الرامية إلى «أمركة» المنافسين المحتملين. فقد أدت جهودنا التنموية الكارثية في روسيا في التسعينات إلى رد فعل بصبغة «بوتينية» واضحة، وليست العلاقة على الطريقة الألمانية أو اليابانية التي كنا نتصورها. ويبدو أن العلاقة «الصينو – أميركية» الخاصة غير الحكيمة طيلة العقدين الماضيين لم تسفر إلا عن تمهيد الطريق أمام الصين لكي تصبح منافساً حقيقياً، وليس شريكاً صغيراً في نظام عالمي سلمي.
إن كلا النوعين من الإخفاقات وتداعياتهما -النزعة الانتقامية الروسية، والقوة الصينية المتنامية، إلى جانب مستنقع العراق والهزيمة في أفغانستان- كانت سبباً في إضعاف الإمبراطورية العالمية الأميركية إلى حد كبير، وزوال أوهام ما بعد الحادي عشر من سبتمبر فيما يتصل بالهيمنة الحقيقية على العالم.
ولكن ما دامت لدينا الإمبراطوريتان الأخريان اللتان ينبغي أن نرتدّ إليهما، فمن منظور تأريخي بارد وجامد، فإن الموقف لا يزال يبدو كسيناريو خسارة روما للحروب الحدودية، أمام قبائل بارثيا والقبائل الجرمانية في آن واحد -وهو وضع سيئ، ولكنه قابل للتعافي- أكثر من كونه انهياراً صريحاً للإمبراطورية.
ومع ذلك، فإن الهزائم على الحدود البعيدة يمكن أن تترك عواقب أقرب ما تكون إلى قلب الإمبراطورية. والإمبريالية الأميركية لا يمكن أن تسقط بسبب «طالبان». لكن في إمبراطوريتنا الخارجية، في أوروبا الغربية وشرق آسيا، يمكن أن يسفر تصور «ضعف الولايات المتحدة» عن التعجيل بالتطورات المهدِّدة فعلياً للنظام الأميركي كما كان ماثلاً منذ عام 1945 – من الوفاق الألماني الروسي، إلى إعادة تسليح اليابان، إلى الغزو الصيني لتايوان.
من المحتم أن تؤثر هذه التطورات على الإمبراطورية الداخلية أيضاً، حيث قد ينسحب حس التعجيل بالانحدار الإمبراطوري إلى كل حججنا المحلية، ويوسع من حدة انقساماتنا الآيديولوجية المتثاقلة بالفعل، ويشجع الشعور بالتصدع مع شبح الحرب الأهلية الذي يَلوح في الأفق.
ولهذا السبب يمكنكم التفكير، كما أفعل تماماً، بأنه أمر جيد أننا انتهينا أخيراً من تدخلنا العقيم في أفغانستان، ولا نزال نخشى بعض العواقب المحتملة للضعف وعدم الكفاءة التي تبدّت جلية في أثناء ذلك الانسحاب.
وإذا ما تحدثنا عن الإمبراطورية الأميركية بأسرها، فإن هذا الخوف يشير إلى حقيقة راسخة: قد تظنون أن بلدنا سيكون أفضل من دون إمبريالية بالكامل، لكن هناك مسارات قليلة للغاية للعودة من الإمبراطورية إلى مجال الدولة العادية، تلك التي لا تنطوي على انهيار مؤلم حقاً.
*نيويورك تايمز
* نشر أولاً في الشرق الأوسط