يتباهى الجنس البشري على الدوام بأنه أرقي الكائنات تفكيرا وادراكا ولا شك في ذلك عند التشريح البيولوجي لكن في الواقع نجد الكثير من البشر يعيش حيوات متنقلة بين عجز وتخلف شرور وعندما تسألهم عن السبب يتحججون بالظروف القاسية وقلة ذات اليد وقسوة العيش التي تفرض عليهم انحرافات هي الفناء بحد ذاته بل اسوأ. يتباهى الجنس البشري على الدوام بأنه أرقي الكائنات تفكيرا وادراكا ولا شك في ذلك عند التشريح البيولوجي لكن في الواقع نجد الكثير من البشر يعيش حيوات متنقلة بين عجز وتخلف شرور وعندما تسألهم عن السبب يتحججون بالظروف القاسية وقلة ذات اليد وقسوة العيش التي تفرض عليهم انحرافات هي الفناء بحد ذاته بل اسوأ.
بينما نجد الطبيعة مليئة بصور العزم والمثابرة والتمسك بالبقاء الجوهري رغم ما يواجهها من محن ومشاق.. في الطبيعة لا نسمع قصص الجرائم والسرقات والسلب والنهب …
لا نجد المنشورات المطولة من الشكوى والتذمر …
لا نلمح بشاعة الانتحار سواء المباشر أو غير المباشر كالتدخين والادمان مثلا…
في الطبيعة هناك تقبل صامد للشدائد وتفاني لاجتيازها بحيز الممكن المتبقي والذي لن يكون معدوما أبدا…
ما الذي ينقص البشر ليعيشوا هذا الاستبسال الكريم بلا تطفل ولا طغيان؟!
في المقال السابق استعرضنا بعض تلك النماذج الطبيعية وختمنا المقال بالإشارة الى شعب بكامله اجبرته الظروف على مواجهة موقف عصيب يحمل داخله بذور الفناء والتعاسة لكنه تخطاها بشكل مبهر..
لكم ان تتخيلوا مجموعة عشائر وقرى تحاصرها الجبال والهضاب لتفصلها عن 4 دول كبيرة تحيط بها مما جعل تلك الدول تتخلى عن تلك الاسر والعائلات رغم انتمائهم الأصيل لها …
مع الوقت تكونت كانتونات مبعثرة تتكلم نحو 4 لغات ولها عدة مذاهب دينية وثقافية.. وخلال الحروب التي كانت تجتاح القارة كانت العرقيات المختلفة تقوم بدور الحرب بالوكالة عن قومياتها الأم مما جعل شبه الاتحاد لتلك الكانتونات ينهار بشكل قاسي المرة تلو المرة ويبقى الدمار والهزيمة هو نصيب هذا الهجين المنبوذ رغم تغير الطرف المنتصر في تلك الحروب …
ومع القرون المظلمة شعر الهجين أنه وقود المحرقة دوما في تلك التناحرات لذا قرر اتحاد الكانتونات الذي ارتفع عددها إلى13…قرر اعلان مبدأ الحياد التام…كان ذلك قرابة القرن الثالث عشر ميلادي …..
الحياد خفف الاستنزاف لذلك الشعب غير المتجانس لكنه لم يمنحه الاستقرار فمع رغبة الاتحاد المتوسع في عمل اصلاحات دينية وثقافية اشتعلت حرب أهلية بشعة بين الأطياف المنحدرة من اصول ومشارب ولغات مختلفة …
كانت الخسائر فادحة وظل الجميع يتفرج على الذبح المستمر لسنين بين الاثنيات والعرقيات في ذلك الحيز الذي سمي فيما بعد باسم يدل على السهل المحروق..
لم يكن ذلك كل شيء فالاتحاد الهجين كان بلا منافذ بحرية ولم يكن الطيران موجود حينها، لا ثروات معدنية، لا مساحات مفتوحة حيث أن ثلثي البلد هو سلسلة جبلية عملاقة يغطيها الثلج لشهور طويلة..
سياسة الحياد تمنعهم من خوض أي حروب استعمارية كما يفعل غيرهم واصلاً لم يكن لديهم لا الوفرة السكانية ولا العتاد لتكوين أي نوع من الجيوش..
ويزداد المشهد قتامة حين تتفحص تلك الكانتونات المبعثرة التي جمعها اتحاد فيدرالي ليس لديه الصلاحية لتوحيد اللغة أو الديانة..
كيف سيعيش هذا الشعب وماذا سيكون مصيره؟
نحن الآن قرابة القرن الثامن عشر ولابد من طريقة للبقاء وسط العمالقة التي لا ترحم …
خلال قرنين مع العمل الدؤوب الشاق والعزيمة الماضية كالشهب تحققت الآمال العريضة.. لقد صار هذا الاتحاد من أشهر دول العالم بل وصار منطلق للعديد من التغييرات الجذرية التاريخية..
معدل دخل الفرد فيه هو الأعلى عالميا والخدمات المدنية تعتبر هي الأرقى في كل المستويات بينما الممارسة الديمقراطية والحراك السياسي هو الأكثر نضجا واستقلالا، يكفي أن نعرف أن الشعب فرض عدم دخول الاتحاد للأمم المتحدة حتى عام 2002…
بالنسبة للجانب الصناعي فلديهم صناعات لا ينافسهم فيها أحد ولا يوجد من ينكرها على مستوى الكرة الأرضية …
مازال هذا الشعب يلتزم الحياد ولم تجتاحه حرب أو غزو منذ قرون فلقد صار معه ما يجعله في أمان من كل الأطراف حتى في الحرب العالمية 1و 2…
هل عرفتم عن من نتحدث؟
إننا بالطبع نتحدث عن اتحاد 26 كانتون في قلب اوروبا يسمونها سويسرا …..
كيف حصل ذلك؟؟
لقد فكر الشعب السويسري في أن العمالقة حتما لهم احتياجات وعليهم هم استثمار تلك الاحتياجات لصالحهم وأهمها الحاجة لمكان آمن للمال ومن هنا برعوا في السياسة المصرفية و شهرة البنوك السويسرية لا تضاهى ..
ثم إن الحياد يمنحهم فرصة أن يكون وسيط بين كل الأطراف لذا كانت جنيف وبرن وزيورخ ودافوس أماكن للصليب الأحمر والمنظمات الدولية والمحكمة العليا للجنايات وقمم الكبار والكثير من القصور والمرافق الدبلوماسية العالمية…
من جهة اخرى الشعب السويسري لا يحتاج لجيش لذا فكل نفقات السلاح تم تسخيرها للبنية التحتية من كهرباء ومياه وطرقات وتعليم ومنتجعات سياحية خلابة سواء في الوديان الخضراء او في قمم الجبال حيث التزلج على الجليد والهواء العليل.
وبالطبع السياحة راجت بقوة فالشعب السويسري لديه أربع لغات رسمية الفرنسية والالمانية والرومانشية والايطالية و هو مثقف متفتح عالي التعليم و الخبرة المعرفية..
وﻷنه بلا موانئ ولا ثروات لذا فلنركز على صناعات خفيفة ودقيقة يغلي ثمنها و يخف حملها فكانت الساعات و الاقلام و النظارات و صياغة المجوهرات و مؤخرا دخلت صناعة التكنولوجيا و النانوتكنولوجيا …
تخيلوا ان الشعب السويسري رفض الانضمام للاتحاد الاوروبي والسوق الاوروبية ليبقى محتفظا بقوة استقلاله….
لقد اجبروا العالم على احترامهم رغم انهم لا يتجاوزوا 8مليون نسمة قسم منهم مازال يكرس نفسه لإنتاج الالبان وزراعة الحقول حول 1500بحيرة في بلادهم …..
لقد كان هناك ممكن ضيق جدا لهم لكن مثابرتهم جعلته مبارك ومؤثر جدا…
لقد تقبلوا اختلافهم ولم يتذمروا من نبذ الجميع لهم بل انسجموا معا ليصنعوا اسطورة عجيبة….
اليس ذلك جميلا ؟!!