“بدايات السيرة الذاتية عند العرب”.. ثقافة الكتابة عن الذات
نجيب مبارك
ينطلق الباحث المغربي، محمد الوردي، في كتابه الصادر مؤخرًا بعنوان “بدايات السيرة الذاتية عند العرب: الأعراف والأنواع والمقاصد” (سليكي إخوان، 2021)، من فرضية عامة ترى أن التراث العربي ساهم مساهمة قوية في تأسيس جنس السيرة الذاتية، وأن سلطة المحددات البنيوية المتقدمة لهذا الجنس الأدبي أعاقت القراءات العربية الحديثة للسير العربية القديمة، التي لا تخضع للمحددات البنيوية الغربية.
السيرة الذاتية التراثية في ميزان النقد
تعرضت بعض الدراسات العربية القليلة إلى السيرة الذاتية في التراث العربي، وحاولت تقديمها انطلاقًا من أسئلة خاصة، تاريخية، أو اجتماعية، أو أدبية. وبالرغم من تعدد التصنيفات التجنيسية المستعملة، في تسمية المؤلفات التي يقصد أصحابها كتابة تجربتهم بطريقة ما، بين سيرة ذاتية، أو ترجمة ذاتية، أو ترجمة شخصية، أو ترجمة النفس، أو السيرة الشخصية، إلا أن هذه المفاهيم تقصد وصف النمط الكتابي نفسه، وهو مجموع المصنفات المستقلة التي يقصد أصحابها التعريف بأنفسهم، والحديث عن تجربتهم في الحياة العملية، أو الروحية، أو السياسية. لذلك، يلاحظ تعدد المصطلحات التي تصف النوع العام المنظم للكتابة عن النفس في السرد العربي القديم، من دون أي تدقيق في المسوغات الشكلية، أو المضمونية، التي تفسر ترجيح مصطلح على الآخر. وفي هذا السياق، حاول الباحث محاورة نموذج من هذه الدراسات، وتبيين رؤيته لهذا الجنس في التراث، من خلال دراسة كتاب “الترجمة الذاتية في الأدب العربي” ليحيى عبد الدايم، الذي قام فيه صاحبه بتحديد الخصائص الفنية للترجمة الأدبية، مستلهمًا النموذج الغربي، باعتباره النموذج المكتمل الذي ينبغي أن تستنبط منه القواعد العامة الصالحة للتعميم، لكنه حين تطبيقها على سيرة الشعراني، وسيرة ابن خلدون، أغفل الهوية الخاصة لهذين النصين، والسياق البلاغي المحكوم بشروط تواصلية محددة.
“يلاحظ تعدد المصطلحات التي تصف النوع العام المنظم للكتابة عن النفس في السرد العربي القديم، من دون أي تدقيق في المسوغات الشكلية، أو المضمونية، التي تفسر ترجيح مصطلح على الآخر”
لقد أعادت بعض الدراسات الغربية الحديثة الاعتبار لمساهمة الحضارة العربية في نشوء هذا الجنس الأدبي وتطوره في العصور الوسطى، كما يتجلى ذلك مثلًا في كتاب “ترجمة النفس: السيرة الذاتية في الأدب العربي”، وهو كتاب جماعي حرره دويت راينولدز، وتكمن أهمية هذه الدراسة في كونها تتسم بالشمولية، بحكم تأخرها الزمني، والتنوع أيضًا: فهي حاولت في فصل مستقل مناقشة جميع الدراسات والآراء الغربية التي انشغلت بدراسة السيرة العربية وأبدت رأيًا بها، سلبًا، أم إيجابًا. كما أنها عملت على تنويع مداخلها التحليلية، فبدأت بقسم نظري تناقش فيه آراء النقد الغربي في مفهوم السيرة وأصولها، ثم قسم تطبيقي قدمت فيه مجموعة كبيرة من النصوص العربية التراثية التي تنضوي داخل جنس السيرة الذاتية، وهي قائمة تشمل أغلب السير العربية الشهيرة، مثل سيرة الحكيم الترمذي، والغزالي، وابن خلدون، والسيوطي، والشعراني.
نشأة وتطور السيرة الاعترافية
لا شك في أن كلمة “الاعترافات” ارتبطت باسمين كبيرين: القديس أوغسطين المؤسس، وجان جاك روسو المطوّر، الذي يكاد يجمع الدارسون على اعتباره المؤسس الأول للسيرة الذاتية الحديثة. وبما أن أصول هذا الجنس ارتبطت بالاعتراف، لأنه ارتبط بشعائر ومقاصد دينية خاصة، فإن السيرة في عصر النهضة وما بعدها ظلت مدينة للسنة المسيحية وثقافة الاعتراف، حتى بعد أن تخلصت من البواعث الدينية. إن ما يميز تجربة روسو، باعتبارها النموذج الأنضج للسيرة الذاتية، هي أنها فتحت تقاليد جديدة لهذا النوع من الكتابة في الثقافة الغربية، وذلك من خلال ترسيخه فكرتين أساسيتين: أولهما التحرر من الفكر الديني الكنسي، حيث تغير عند روسو مفهوم الاعتراف وغاياته. أما الفكرة الثانية، فهي النزعة الفردانية في السيرة الذاتية، لأنها تقوم بأكملها على الإيمان بالفرد والأنا. وعلى هذا الأساس، يرفع روسو التحدي بتقديم صورته الشخصية في أصدق صورها الطبيعية، مؤكدًا دائمًا أنها ذات مختلفة لا مثيل لها، غريبة ومتفردة ومفاجئة، لا تتصل بالصورة العامة الشهيرة التي يعرفها الجميع عنه.
“ما يميز تجربة جان جاك روسو، باعتبارها النموذج الأنضج للسيرة الذاتية، هي أنها فتحت تقاليد جديدة لهذا النوع من الكتابة في الثقافة الغربية”
ويمكن القول، إجمالًا، إن النموذج الغربي للسيرة الذاتية مرّ بتحولات عديدة أثرت على بنيته وأسلوبه ومقاصده، وبناء على ذلك فإنه يمكن تلخيص المحددات العامة لهذا النمط في الثقافة الغربية في كون السيرة الذاتية ارتبطت في أصولها بالدين المسيحي، وتحديدًا بشعيرة الاعتراف الذي يعد مدخلًا من مداخل التطهر من الذنوب. ورغم أنها تخلصت مع روسو من النوازع الدينية، إلا أنها حافظت على الاعتراف مدخلًا للكشف عن خبايا الذات بصدق وشفافية، وهي أهم خصائص هذا الجنس. كما ارتكزت السيرة الذاتية الدينية على مخاطبة الله أولًا طمعًا في الغفران، بينما كتبت السيرة الذاتية الجديدة من أجل القارئ بدوافع تواصلية خاصة متحررة من كل رقابة ومن كل سلطة مقيدة، وهو ما فتح المجال أمام الكتابة الأدبية الاستعراضية، ورفع القيمة الجمالية في هذا النموذج المتطور الذي بدأه روسو، واستمر إلى اليوم. ثم أن السيرة الذاتية الغربية احتفظت بالقصد الاعتباري، أي منح عبرة للتعليم، وتجنب الأخطاء. وارتكزت أيضًا على فردية الذات وطبيعتها الخاصة، وهو ما يجعلها مليئة بسرد العيوب والأخطاء، وإن تحول ذلك إلى هوس السرد الفضائحي.
السيرة الذاتية في التراث العربي
تتعدد الأسماء التي وصف بها العرب مصنفات الكتابة عن الذات. ويمكن إجمال أشهر المصطلحات التي استعملت في سياقات متعددة للدلالة على الكتابة عن الذات في: السيرة، والترجمة، والبرنامج، والفهرسة، والمناقب. وأغلب هذه المصطلحات متقاربة تقاربًا دلاليًا، بما أنها جميعًا تصف المسرودات التي يكتبها الإنسان عن نفسه، إما في شكل أخبار ذاتية متفرقة، أو في سرد تصاعدي مسترسل. لكن أغلب الدراسات انطلقت في تعريفها للسيرة من تجليات السيرة الذاتية المعاصرة، ولم تراع خصوصيات الكتابة عن الذات في الأدب القديم. وهو ما يطرح سؤالًا محوريًا وملحًا: هل وجدت السيرة الذاتية في التراث العربي القديم؟ وهل كان عند العرب وعي بقيمة التجربة الشخصية حتى تتحول إلى موضوع كتابة؟ وليس القصد بهذا السؤال البحث عن الوعي بخصائص السيرة الذاتية وقواعدها الحديثة في الأدب القديم، بل عن تجربة الكتابة عن الذات، باعتبارها ممارسة خاصة لها دوافع محددة، تؤثر في تشكلها صياغة ومضمونًا.
“أغلب الدراسات انطلقت في تعريفها للسيرة من تجليات السيرة الذاتية المعاصرة، ولم تراع خصوصيات الكتابة عن الذات في الأدب القديم
من المؤكد أن آراء الباحثين شهدت تضاربًا في تحديد بدايات هذا الجنس عند العرب، إذ يرى فرانز روزنتال بأن السيرة الذاتية العربية انقسمت إلى قسمين: السيرة الذاتية الروحية، وكانت بدايتها مع المحاسبي (243هـ)، والسيرة الذاتية الدنيوية، وبدايتها في سيرة حنين بن إسحاق (264هـ). وهو رأي مفيد في هذا السياق، بما أن صاحبه يلغي جميع الشروط المفترضة لكتابة هذا الجنس، مثل تخصيصه في مؤلف مستقل، أو حتى اعتماد قدر معين من الأخبار الشخصية. وفي مقابل هذا الرأي، اعتبر أنور الجندي أن الإمام الغزالي هو أول من كتب سيرة ذاتية حقيقية، بينما اعتبر طه حسين أن ابن خلدون هو صاحب أول سيرة ذاتية.
وأمام هذا الاختلاف في الآراء، يخلص الباحث إلى أن التراث العربي زاخر بأنواع كثيرة من الكتابة عن الذات. وهي في تعددها تشكل مراحل تطور هذا الجنس في الممارسة الأدبية التراثية. ومع رحابة جنس السيرة الذاتية، يتجه باحثون كثر إلى وصف جميع النصوص التي قصد أصحابها الحديث عن أنفسهم بشكل من الأشكال بالسيرة الذاتية. ولعل هذا التباين في الشكل والمضمون، يدل على أن بدايات السيرة الذاتية عند العرب لم تخضع لنسق بنيوي محدد وصارم، بل تشكلت وفق الظروف التاريخية والتواصلية الخاصة التي استدعت الكتابة عن الذات عند كل كاتب. فهناك نماذج ترفع مقاصد التوجيه والاعتبار، وهي سير يغلب عليها الأسلوب التقريري المباشر، مثل سيرة الغزالي، وجوانب كثيرة من سيرة الشعراني، بينما هناك سير ذاتية يغلب عليها الوصف الأدبي، مثل سيرة الحكيم الترمذي، الذي ركز على وصف مشاعره وتقلبات نفسه، وما عاناه من ظلم مجتمعه له، وانعكاس كل ذلك على تجربته الشخصية التي انتصرت بالدعم الإلهي.
وخلاصة القول إن الكاتب العربي القديم عرف السيرة الذاتية، وتمثل خصائصها وشروطها، وإن كانت ممارسته لم تظهر بكثافة، وسبب ذلك راجع إلى طغيان السيرة الغيرية، باعتبارها أهم أشكال السير بروزًا، لما فيها من توافق مع القيم الأخلاقية التي تحفظ ترجمة الرجال بأقلام غيرهم بغية تجنيبهم “إثم” الحديث عن النفس. لهذا أثير دائمًا سؤال التفاضل بين السيرة الذاتية، والسيرة الغيرية، داخل الثقافة العربية القديمة. وهنا يمكن الإشارة إلى مساهمة التصوف الكبيرة في ترسيخ ثقافة الكتابة عن الذات، وتوسيع مجالها ووظائفها، خصوصًا أنها أصبحت عنصرًا هامًا من عناصر التلقين والتربية، ونقل العبر والتجارب إلى المريدين. بيد أن طبيعة السيرة الذاتية العربية بأكملها لا تنفصل عن قصد بلاغي شامل، وهو صناعة النموذج المثالي، الذي يمثل الإنسان القدوة. وهذا ما أثر عميقًا على بنية السيرة العربية، بما هي سير احتفالية تروم بناء صورة نقية ومثالية عن شخصية كاتبها.
المصدر: ضفة ثالثة