تهب الرياح فتحمل معها بذرة شجرة واعدة إلى أرض خصبة رغيدة الماء والمناخ فتعيش عيشة هانئة سعيدة، ثم تغتال بأسنان منشار في عز شبابها..هذه هي الحياة اليس كذلك؟؟!! تهب الرياح فتحمل معها بذرة شجرة واعدة إلى أرض خصبة رغيدة الماء والمناخ فتعيش عيشة هانئة سعيدة، ثم تغتال بأسنان منشار في عز شبابها..هذه هي الحياة اليس كذلك؟؟!!
فهذه الرياح نفسها تحمل بذرة أخرى لا تقل آمال عن الأولى ثم تطرحها في صحراء قاحلة لا ماء ولا مناخ جيد ولا تربة كريمة …فهل انتهى أمرها؟
لو كانت البذرة انسانا لكان علينا التفكير مطولا في استسلامها للفناء بعد أن تندب حظها المنحوس وتلعن أقدار عيشها بكرة وعشياً حتى تنطفئ . لكن الاحياء كلها تخالف الانسان في قنوطه.. فالكائنات تعلمت الكفاح واتقنت ببراعة فن الممكن والمتاح.
تلك البذرة لديها، بفضل الله، العزم لتتخلى عن وجودها الكامل وترضى بوجود منقوص لكنه جوهري يضمن لها حد البقاء بالممكن والمتاح …
فنجد الأوراق تتقلص لتتحول إلى أشواك مما يقلل عملية النتح وتبخر الماء، بينما تتحول الساق والفروع إلى خزانات للماء الشحيح وتثابر الجذور لامتصاص أي قدر متوفر من الرطوبة …
هكذا يتجسد امامنا الصبار حياً في الصحراء لسنين طويلة.
في الصحراء نفسها هناك سحالي مدببة الشكل لتقليل عملية التعرق …تلك السحالي تعلمت امتصاص أي قطرة ماء باستخدام جلدها ليتسنى لها الشرب بأكبر مساحة ممكنة من جسدها …
بعض اﻷسماك في الأنهار العذبة تجد نفسها محاصرة في بحيرة ضحلة تجف مع مرور مواسم القحط معلنة الهلاك المؤكد لها…
العجيب أن تلك الاسماك تتدارك الموقف فتبتلع ما بقي من الطمي والطين المشبع بالماء، وتتحوصل على نفسها لتدخل في سبات اشبه بالغيبوبة الاختيارية…ثم تنتظر انفراج الكرب بصبر وعزم فلا تتحرك ولا تفك سباتها، حتى لو ساقتها الظروف لتكون داخل لبنات طينية يعمر بها البشر أكواخهم…
بعد 5 أو 10 سنين تتغير الظروف كما هي حال الحياة وتمطر السماء بغزارة وتجري السيول وحين تتأكد أنه موسم الخصوبة تخرج من سباتها في منظر مهيب تنساب فيه من داخل اللبنات إلى مجاري السيول ومنها إلى أقرب نهر لتواصل حياتها الطبيعية.
الشعوب تهدر فرصتها لصناعة مثل هذه النماذج المدهشة بالنحيب والعويل والعجز …تلك الكائنات لا تمتلك شيئا من تفوق عقل الانسان وملكاته، ومع ذلك تخطت التحديات التي تواجهها فهي تعرف أن الحظ الطيب لا وجود له كما هو الحظ العاثر أيضا مجرد أوهام …هي تؤمن أن الحظ يصنع بالكدح والتدبير والكفاح.
قلة من الشعوب آمنت بهذه الحقيقة واجتازت ما اعترضها في بطولة تخلت فيها عن وجودها المؤقت والسطحي، ورسخت وجودها الجوهري في ذلك الوقت العصيب من كفاحها للبقاء.
إحدى تلك الشعوب، هو شعب عريق وجد نفسه في ظروف سيئة ظالمة داخل محيط لا يرحم…فمن اﻷساس هو خليط من عدة شعوب ودول أجبرتها التضاريس الجغرافية على التخلي عن جزء منها في أطراف حدودها، فصار داخله عدة عرقيات ولغات تجتمع في مكان واحد تحيط به دول كبرى متناحرة.
هذه التركيبة جعلت النسيج المجتمعي له هش وغير مستقر، فكل عرقية كان لها ولاءها الخاص للدولة اﻷم الذي جاءت منها، وكانت لغتها جزء من انتمائها الذي لا تتخلى عنه، كما أنها ظلت كعرقيات تنظر وتتبنى ما تمليه عليها دولتها اﻷصل، حتى لو كان ذلك خطر على وجودها في مجموع نسيج وطنها الهجين.
هذه التوليفة الخطيرة جعلت هذا الشعب في حروب بالوكالة للجيران المتناحرين…حروب لم يكن له فيها إلا الدمار والخراب والكساد، مهما كان الطرف المنتصر كما هي الحال دوما في حروب الوكالة…
من جهة اخرى..
لقد كان هذا الشعب الهجين محبوس في تضاريس متباينة وأكثرها جبال شاهقة تكسوها الثلوج معظم أيام السنة …تضاريس لم يكن فيها أي منفذ بحري، والذي كان هو البديل الوحيد للسفر برا.
بالإضافة أن أرض ذلك الشعب لا تملك أي موارد غالية لتمنحه نقطة تفوق.. لا مناجم ذهب.. ولا فحم …ولا معادن…. ولا ثروة حيوانية أو زراعية…
لقد كان شعب شحيح الامكانيات الذاتية وسط كبار وعمالقة يستعملون الحروب والقوة لسرقة شعوب أخرى، وذلك ما لا يمكنه فعله، فمع تعاقب الحروب عليه اضطر أن يلزم نفسه بالحياد ليوقف نزيفه من الحرب بالوكالة، لكن الحياد بالمقابل منعه من الغزو كما يفعل غيره …
وعليه فلم يكن له أي فرصة في أي صناعة ثقيلة أو صادرات ثمينة …
للوهلة الاولى لابد أن تعتقد أن مصير هذا الشعب هو الفقر والعوز والتبعية ﻷي عملاق يمنحه عطايا وصدقات أكثر، لكن ذلك لم يحصل بل صار هذا الشعب من أقوى شعوب المعمورة ومن أعمقها أثراً في تحريك دفة التاريخ …
كيف؟؟
اترك لكم التفكير في ذلك؛ إلى أن القاكم في اسطري القادمة عن روعة فن الممكن.