آراء ومواقف

حكايات من قلب المقاومة

أحمد عثمان

يقف اليوم جبل ضحيح حارسا امينا وسدا منيعا وسيفا ضاربا يتساقط الاعداء متناثرين أمام كبرياء هذا الجبل الأشم؛ فيما القرى المحيطة به حماه وكحلان والشقب، تحولت إلى محرقة مميتة، فالكل فيها يقاوم… الحجر والشجر والرجل والمرأة والطفل والشيخ. (باعد بجيدك وضحيح  شنظر بروج الاماني
خلف الربى وسط كحلان ليا بها قلب ثاني)
 هذا مطلع قصيدة قيلت في الثمانينات من القرن الماضي، كان الاستاذ أحمد محمد صالح مدرسا في معهد راس النقيل بعيدا عن قريته (كحلان)، وعندما يطول به المقام ويتحرك الشوق، يرى جبل (ضحيح ) منتصباً بعنقه يمنعه عن رؤية مشارف قريته فيطالبه بالابتعاد من أمامه والانحناء بعنقه قليلا ليرى دياره ومن سكن الديار حيث يسكن هناك قلبه الثاني!
حينها كان يتلبسه الضيق فالبعد والجبل والغروب ورابعهم (الطفر)، يجتمعون عليه ليتبع قصيدته بنهدة المفارق وبموال حزين يردده المزارعون، في مثل حالته المخلوطة بوحشة متداخله المشاعر: 
( مع العشي مع المغارب وا قليب لا تكترب)
 ليعود مخاطبا الجبل بقوة:
(باعد بجيدك وا ضحيح
(……………..
وكأنه خصم أو قاطع طريق
 اما اليوم فالجبل يمثل حارسا امينا وسدا منيعا وسيفا ضاربا يتساقط الاعداء متناثرين أمام كبرياء هذا الجبل الأشم.
 والقرى المحيطة به حماه وكحلان والشقب، تحولت إلى محرقة مميتة، فالكل فيها يقاوم… الحجر والشجر والرجل والمرأة والطفل والشيخ.
  لا مكان للغزاة في قرى قررت أن تسجل نفسها في دائرة النور والكرامة …
 نظم الغزاة عدة اقتحامات للسيطرة على جبل (ضحيح ) لكنه كان يتعامل معهم كحشرات صغيرة، يدوسهم أو يبعدهم عن قدميه، ففي قمته شباب لا يقلون عنه صلابة، يستمد منهم الجبل العظمة والشموخ! 
 استقدم الغزاة في اقتحاماتهم ما تبقى من كتائبهم الهالكة، كتائب (الحسين)، و(المكبريين)، و(الصباريين) وغيرها من الاسماء التي كانت مجرد العلم بقدومها تسقط أمامهم القرى وتفتح المدن.
  كان هذا قبل قدومهم تعز حيث تلاشت هيبتهم وتبخر مشروعهم مع الريح.
في المحاولة الأخيرة كان الهجوم من أكثر من جهة وفيه حشد والتفاف محكم، ونجحوا في التوغل لمسافات طويلة دون رادع أو عائق، فلا صوت سوى أصوات صواريخهم ونيرانهم الكثيفة، حتى توهموا أن (ضحيح) انحنى أخيراً، والقرى انكسرت من رعبهم، وعندما امعنوا في التوغل الذي بدا سهلا، ووصلوا إلى العمق ارتفعت أصوات مدافعهم وصواريخهم أكثر ومعها ارتفعت أصواتهم بالشعار إياه، اعلانا بانتصارهم و بهزيمة جبل (ضحيح) والقرى المقاومة.
لم يمهلهم ( ضحيح)  الذي أخذ يتثاءب ويفرك عينه ليبدأ المعركة كما أرادها الشباب وخططوا، وفجأة تنتفض الشجر والحجر والإنسان ناراً محرقة وبركانا من لهب وغضب ليقعوا في الفخ.
كان كمينا محكما أسقط العشرات قتلى وجرحى اشترك فيه الرجال والنساء؛ فالقرية تتنفس مقاومة وتنشد اغنيتها المفضلة: (كلنا مقاومة).. سر صمود تعز وعظمة صبر!
وكان لكل مواطن رجل وامرأة قصة بطولة واساطير فدا.
 زوجة الشهيد عبدالرحمن الذي لم يمضِ على استشهاده سوى ثلاث أيام لم يهدها الحزن، ولم يرعبها فراق شريك حياتها الذي ترك لها كرامة وإرادة لا تعرف الانكسار وبندق ( جرمل ) وبعض الذخيرة وهي كل ما يملك…
بكل شموخ اخذت البندق (الجرمل) واتخذت مترساً، كما يفعل الأبطال، تنتظر الجبناء القادمين لتحارب ككتيبة بثبات وبسالة؛ كانت حديث القرية وبطلة المعركة.
 يقول أحد أبناء القرية: في المعركة رأيناها كقائد عسكري محنك ساعدت في شحذ الروح وتماسك المقاتلين كانت تردد كلمة واحدة لا تخافوا …لا تخافوا تذكرهم بحقيقة مغادرة الخوف قلوب الناس كعامل للقوة التي لا تهزم، وكأنها تؤكد أن الهزيمة والنصر تبدأ من النفس.  
  ويضيف: وأمامي قتلت اثنين، وجرحت آخرين، دون تردد أو خوف، وهي المعروفة برقة القلب وتبكي لمجرد شجار مع الجيران أو شوكة تصيب طفلاً؟
  لقد تساقط الغزاة مثل الفراشات على جدار المقاومة التي تحركت كجسم واحد بديع التناسق وعظيم الجسارة.
 لم تترك المرأة مكانها حتى تأكدت من الانتصار، وعندما نهضت القرية للاحتفال بالنصر نهضت هي لتحتفل واهدت النصر لروح زوجها الشهيد وزملائه.
علقت ( الجرمل) في مكانه المحدد في الديوان، وخرجت تزغرد مع نساء القرية ولم تتوقف إلا لكي تدخل المطبخ تعد القهوة والطعام للمقاومين شأنها شأن كل النساء.
 كان واضحا أن روح المقاومة عندما تسري في قرية تحيل مآتمهم إلى كبرياء، وأحزانهم إلى روافع للتحدي والإصرار، وتحولهم إلى قوة عميقة الروح تصبح معها أعناق الناس عصية على الكسر أو الانحناء مثلها مثل الجبال الراسيات.
في هذه الجو لا اعلم ماذا يقول الاستاذ احمد محمد صالح وماذا يسطر قلمه الجميل لكنني متأكد أنه قد انهى خصومته مع جبل (ضحيح) إلى الصداقة والفخر ولسان حاله يقول:
(اشمخ بجيدك وا ضحيح
 (………….
ومنتظرين أن نسمع جديد شعره عن هذه الملاحم التي يعيشها قريبا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى