تراجم وتحليلاتغير مصنف

قلق الجبال.. اليمن عقدة الموارد والصراع على السلطة

لم تكن العوامل المنتجة للصراع في اليمن ذات طبيعة عقائدية، وانما تعود اسبابها الحقيقية إلى عوامل الطبيعة وتمايز المناطق واختلافها بين منطقة شبه جافة وشحيحة بالموارد، ومنطقة تمتاز بوفرة مياهها وخصوبة أراضيها، ومن هنا ترجع الدوافع الأساسية للصراع إلى أسباب مادية، تتغلف هذه الدوافع كما يقول الدكتور “سيد مصطفى سالم”، بشعارات عقائدية أو مذهبية. يمن مونيتور/ خاص/ من محمد صلاح
 لم تكن العوامل المنتجة للصراع في اليمن ذات طبيعة عقائدية، وانما تعود اسبابها الحقيقية إلى عوامل الطبيعة وتمايز المناطق واختلافها بين منطقة شبه جافة وشحيحة بالموارد، ومنطقة تمتاز بوفرة مياهها وخصوبة أراضيها، ومن هنا ترجع الدوافع الأساسية للصراع إلى أسباب مادية، تتغلف هذه الدوافع كما يقول الدكتور “سيد مصطفى سالم”، بشعارات عقائدية أو مذهبية.
فاليمن بلد متعدد جغرافيا، بين بيئة جبلية وسهلية وصحراوية وبحرية، وقد تمايزت بين مناطق ذات أمطار وفيرة وتربة خصبة، وأخرى ذات ندرة في الموارد، وقد انعكست على طبيعة المجتمع اليمني وتصوراته للسلطة والحكم.
ففي الداخل الجبلي المجدب والتضاريس الأكثر صعوبة، حين تضعف السلطة المركزية – وكثيراً ما كانت ضعيفة – فإن مناطقها لم تحاول الانفصال عن كيان الدولة، وإنما الانقضاض على سلطة المركز، وإن فشلت محاولة الانقضاض قنعت بإدارة نفسها، وفي الأوقات التي تمتلك الحكومة المركزية أدوات الهيمنة، والقدرة فإنها غالباً ما كانت تترك تلك المناطق لتناقضاتها. 
كما عززت الجبال في الداخل اليمني من نزعة الاستقلالية ولكنها ظلت في إطار الدولة، وأوجدت لديه قلق وخوف شديدين من خروج السلطة من يديه، أو ضعف تأثيره عليها، بسبب عدم قدرته على سد حاجاته الاقتصادية، إضافة إلى الكثير من الظروف المادية والاجتماعية والسياسية التي أثرت على مجمل أوضاعه الحياتية.
فمنذ تحول خطوط التجارة البرية في القرن الأخير قبل الميلاد، وتنامي دور التجارة البحرية، التي استفادت منها حمير القريبة من الموانئ على البحر الأحمر مثل موزع، أو عدن على البحر العربي، إضافة إلى خصوبة الأراضي التابعة لها، تمكنت من خلال الموارد التي جنتها من التجارة أن تصبح القوة الأولى في اليمن، بينما تعطل خط البخور البري، الذي كانت تخترق دروبه أراضي سبأ، وتستفيد من عوائده وتجني الأرباح، وكذلك خراب الأراضي الزراعية وأنظمة الري والسقاية في الوديان التابعة لها، وما رافق ذلك من نزوح القبائل البدوية القادمة من الشمال وضغطها على المراكز الحضرية، الأمر الذي دفع بالسكان الزراعيين أن يلجأوا إلى الجبال، كل هذه العوامل ساعدت على ضعف وتهاوي النفوذ السبئي أمام البزوغ الحميري، ولم يعد حينها مركزاً للسلطة ولا عموداً للحكم في البلاد، بعد قرون طويلة من السيطرة والقوة .
 أصبح الداخل بعد أن فقد أهميته التجارية، وتعطلت فيه الزراعة، وخروج الحكم من يده، محاصراً بالجبل والصحراء، حينها سعت همدان الوريث الفعلي كما يقول علامة التاريخ اليمني عبد القادر با فقيه لسبأ، والمتواجدة في أعالي الشمال، أن تعبر عن الخصوصية السبأية ذات الحضور العميق والعريق في الحضارة اليمنية، بالسعي للحصول على الحكم وخوض الصراعات على السلطة والتأثير في مجرياتها، باستخدام عدد من اللافتات الدينية والمذهبية، ليس لأنها الأحق بالحكم، ولو أنها ظلت تربط نفسها بعظمة اليمن ورمزيتها المغرقة في التاريخ، وصاحبة الشرعية التي أخذتها حمير، وإنما لكي تفك حصار البيئة القاسية وتنال ما يكفيها من الموارد والعائدات التي هيمنت عليها حمير.
 
الصراعات وظاهرة الانتهازية
لقد ظلت حالة القلق التي تعشعش في نفوس أبناء الجبال، حول الموارد، وأخطاء الحكومات طيلة حقب مديدة، عرضة للاستغلال من قبل القوى الانتهازية، التي عملت على تعبئة السكان ومنحهم المبرر والمسوغ الشرعي للحروب والغزو في الوقت ذاته، فظل ابناء هذه المناطق المعروفة بشحتها الزراعية، والتماسك القبلي، خلال عهود طويلة  يقدمون دعمهم الحربي لكل مغامر تتوافق أهدافه معهم، فكانت أراضيهم معقل الأئمة، وقاعدة انطلاقهم للوثوب على بقية المناطق، ويشكل ابناؤها القوة الذي يقاتلون بها بقية القوى في الأماكن المختلفة، وقد صدقت الملكة الصليحية حين وصفت تلك البقاع بيمن الجيش .
كان لاستمرار الصراعات السياسية في البلد حول السلطة والثروة، لعصور مديدة وحقب طويلة في اليمن عموما وفي الأعالي تحديدا، بسبب تواجد فكرة دينية غذت مبادئها الصراعات على السلطة والنفوذ في تلك الأماكن، ومن أمثلتها الاحتراب المتواصل فيما بين ادعياء الإمامة، وبينهم وبين القوى اليمنية الأخرى، نتائج مأساوية على الشخصية اليمنية، بحيث عملت على تسميم روح العمل الجماعي في بناء وتشييد المنشآت العامة التي تخدم المجتمع، وأضافت أعمال الردم لمنشآت الري، وتعطيل الطرقات، وقلع الأشجار، وحرق المزارع، وهدم البيوت والقرى، ومصادرة الأموال العامة، والاستيلاء على الممتلكات الخاصة من قبل المتقاتلين على السلطة، وخلقت حالة الصراعات المزمنة والمتواصلة حتى اليوم في أعماق الشخصية اليمنية بؤرة للانتهازية، ما زالت مع الأيام تتوسع، وآثارها مع السنيين تتمدد، وللأسف لم تتمكن الأنظمة الجمهورية من محاصرة هذه الآفة داخل الإنسان اليمني، وكان من الممكن معالجتها من خلال التنمية، فحين ظهرت بوادرها داخل الريف منتصف السبعينات والسنين الأولى للثمانينات في القرن الماضي تجاوبت المجتمعات المحلية سريعا، واستطاعت -التنمية- أن تحد من تنامي تلك الآفة ومحاصرتها، لكنها سرعان ما عادت في العقدين الماضيين بضرواة أكثر، بسبب طريقة السلطة وتعاملها بحيث سعى نظام صالح في شراء الولاءات المجتمعية، لضمان بقاء هيمنته وتسلطه، وكانت النتيجة انطلاقة الثورة الشعبية ضد منظومة الحكم في فبراير من عام 2011م.
 
ثورة سبتمبر واطفاء القلق
 خلال ثورة سبتمبر المباركة التي فكت احتكار السلطة من قبضة السلالة والمذهب، فإن الثوار ومعهم الرواد الأوائل من الأحرار كانوا يدركون طبيعة المجتمع اليمني، وخصوصياته، ومواطن قوته وضعفه، والعوامل التي تحركه للسير في هذا الطريق أو ذاك، وحتى لا تتمكن الإمامة ومن يقف خلفها من تهييج المجتمعات المحلية في أعالي اليمن وتعزز مخاوفهم من الثورة، فقد ظل الثوار والأحرار يؤكدون في خطاباتهم ومواقفهم على الحكم الجماعي والشراكة السياسية، فارتبط مفهوم الجمهورية في وعي سكان أعالي اليمن بالسلطة، وتحقيق الحكم الجماعي والنظام الشوروي، ويمكن أن نتحقق من صحة هذا المفهوم بالعودة إلى مخرجات المؤتمرات القبلية العديدة التي عقدت طيلة فترة الستينات، خلال الحرب بين الجمهورية والملكية، بحيث كانت تعرض رؤيتها حول القضايا المطروحة في الساحة للفترة التي عقدت خلالها، فلم يخل بيان من بيانات تلك المؤتمرات جميعها من تأكيد المشاركين بالحفاظ على النظام الجمهوري والحكم الجماعي .
ومن هنا فمن المحال على أي سلطة في اليمن أن تستقر بدون الداخل الجبلي ومراعات ظروفه، واطفاء نيران قلقه ومخاوفه حول الحكم والثروة، فلم تكن مصادفة أن الجبال ظلت طيلة ألفي عام تلعب دورا جوهريا في استقرار السلطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى