كتابات خاصة
أخر الأخبار

فبراير وجدَل الدولة المدَنيِّة (2/1)

مع بداية ثورات الربيع العربي بدأ الحديث عن “الدولة المدنية” كأحد الشعارات التي يطالب بها الثوار، ولم تكن اليمن -كواحدة من بلدان الربيع العربي- بعيدة عن ذلك الشعار بل ربما من أكثرها ترديداً له، وقد كانت ساحة اعتصام الثوار مليئة بالندوات والنقاشات والحوارات حول هذا الشعار “الدولة المدنية”، ومع القبول العام له من غالبية الثوار إلا أن مضامينه لم تكن واضحة تماماً عندهم، لكن أهم ما أكسبه قيمة هو تبنيه من قبل قطبي الصراع الفكري القديم حول مفهوم الدولة، وهما التيار الإسلامي والتيار العلماني، ولربما وجد الفريقان في التسمية الجديدة لافتة تجمعهم في الثورة ضد خصم يريدون إسقاطه، متجنبين مسمياتهم وشعاراتهم القديمة التي ربما لا زالت حمولاتها السلبية في ذهن كل فريق منهما لم تتزحزح، حمولات تختلط فيها الحقيقة بالزيف مما أدى لرفض كل فريق شعار الآخر ومضمونه، وهنا جاءت “المدنية” كواحدة من محاولات التقارب بين التيارين، وخاصة أنهم في لحظة حرجة تقتضي منهم التوحد لإسقاط نظام سابق يرون فيه فساداً واستبداداً وفوق ذلك توريث وامتداد لنفس الحكم السابق.

لقد كان شعار “المدنية” مناسباً للتيارين، أما التيار الإسلامي، وأتحدث هنا عن جناح في حزب الإصلاح يمكن اعتباره الجناح التنويري في الحزب، وقد برز خطابه في أثناء الثورة واستطاع أن يطغى صوته على صوت الجناح الذي لازال متمسكاً بمواقفه السابقة في “الدولة الإسلامية”، ذلك الجناح المتنور كان إحدى ثمار الحراك الفكري التجديدي للفكر الإسلامي طوال عقود مضت، وساعده في ذلك تقارب أحزاب اللقاء المشترك في اليمن والذي جمع فيه التيار الإسلامي بمذاهبه المختلفة (الإصلاح، الحق، اتحاد القوى الشعبية) والتيار العلماني بأشكاله المختلفة (الإشتراكي، الناصري، البعث)، ونتيجة هذا اللقاء كانت هناك تعاط متخفف ومتقارب إلى حد ما برز في ذروة الربيع العربي اليمني.

كانت السمة البارزة للخطابين طوال عامي 2011و 2012، هو الحديث عن آمال الثوار في الدولة المدنية ومحاولة إقناع أكبر كم من الناس بها، وفي عام 2013 و2014 ومع الاستقرار الذي جاء بعد تسلم السلطة من النظام السابق بدأ تشكل تيار جديد متفاهم ومتقارب من كل التيارات الموجودة في اليمن، كانت السمة الأبرز فيه أنه يجمع شباباً متخففاً من أحقاد الماضي، ومن الخطاب الإيديولوجي السابق الذي خلق أسواراً بين التيارات ووسع الهوة بينهم، مؤمناً بإمكان تبني خطاب جديد يحقق قيم التعايش والسلام بين أبناء المجتمع، مع احتفاظ كل فريق أو حزب أو تيار بمرجعيته وتصوراته الخاصة، والتي لا تؤثر في الأرضية الصلبة التي تجمعهم، فكنا نشاهد الندوات واللقاءات التي تجمع ضيوفاً متنوعين من تيارات إسلامية ويسارية وقومية بخطاب متزن متطلع لدولة مدنية تحقق الرضى للجميع.

مع نهاية العام 2014 وما حدث من انقلاب أدى إلى استحواذ جماعة دينية-لم تشكل حزباً سياسياً- على السلطة تزعم أن ذلك حقاً إلهياً لها، في انقضاض كامل على كل قيم المدنية، في هذا الجو بدأ يتنامى خطاب علماني يطالب بالدولة العلمانية صراحة كردة فعل على تلك الجماعة، فترك مصطلح المدنية جانباً واعتبر أن الدولة المدنية ليست إلا الدولة العلمانية ذاتها، بينما رأى فريق إسلامي في المقابل أن هناك فروق بين المصطلحين، وأن مصطلح “المدنية” ألصق بمشكلاتنا وسياقنا من مصطلح “العلمانية” الذي نشأ ملتصقاً بالسياق الغربي ومشكلاته وصراعاته، وهناك بدأ النقاش والجدل يتصاعد ويأخذ مسارات مختلفة في التكتل، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي هي الأبرز ، فتكونت مجموعات في الفيس والواتساب لتجمع بين المتفقين على رؤية ما من الرؤى المطروحة، سواء كانت بتصورات الشباب الإسلامي المنفتح أو بتصورات الشباب العلماني، وظهر عند الفريقين أصوات حادة ترفض الآخر لمجرد انتمائه أو اختياره، ولكنها لم تلق قبولاً واسعاً، وظل تأثيرها محدوداً.

أخذ الجدل يتنامى حول إشكالات تفصيلية في المدنية والعلمانية، فماذا يعني كل مفهوم منهما، وما هي سياقاته التاريخية، وما حقيقة الحمولات السابقة للمفاهيم، وما علاقة العلمانية بالإلحاد، وما هي علاقتها بالديمقراطية، وما هي علاقتها بالعلم، وهل هناك ما يعارض قيم المدنية في الفكر الإسلامي، وهل كانت الدول العربية السابقة علمانية أم لا، وهل يمكن أن تكون العلمانية استبدادية في نفس الوقت، ولماذا خفت الحديث عن الديمقراطية، وكيف يكون الفصل بين الدين والدولة، ولماذا نرى دولاً علمانية تظهر بمظاهر دينية؟ كل هذه الأسئلة وغيرها أخذت نقاشات كثيرة عند الشباب اليمني طوال ست سنوات مضت تفاوتت بين المرونة والصلابة في الطرح، لكنها لم تصل بعد لبلورة ما يمكن أن يكون أرضية صلبة للتعايش بين الفئات المختلفة، والسبب يعود هنا إلى دخول عوامل جديدة شجعت الخطابات الحادة الاقصائية، كان أهم تلك العوامل هو الخطاب الإعلامي للثورة المضادة في الوطن العربي والذي أبرز ودعم خطاباً علمانياً حاداً ضد أي إسلامي حتى لو كان صاحب خطاب معتدل يؤمن بالديمقراطية، وفي المقابل عاد الصوت الإسلامي المتشدد لينطلق من ذلك التشدد العلماني كمبرر لمقولاته وأفكاره.

لكن تلك النقاشات استطاعت أن تقرب وجهات نظر كثير من العقلاء الذين يرون أن لا مجال إلا بالتنازل قليلاً للوصول إلى النقاط المشتركة التي يتفق عليها الجميع، وتحفظ وجودهم ووجود دولتهم، في المقال القادم سأتوقف عند تلك المقاربة وتلك النقاط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى