كتابات خاصة

جدَل العَلمانيِّة (2/2)

من أهم الجدالات العلمانية الإسلامية بعد الربيع العربي هو علاقة العلمانية بالعلم، وعلاقتها بالديمقراطية، وعلاقتها بالإلحاد، وهذه إضاءة سريعة على ذلك..

العلمانية والعلم:

يرى بعض المفكرين العرب كعبدالله العروي يرى أن “العِلمانية” بكسر العين، وأنها مشتقة من العِلم، ولا يخالفه عزيز العظمة بل يراها صالحة بالكسر وبالفتح، أما الكسر فكون النظرة العلمية هو البديل عن النظرة الدينية. بينما يرى أغلب المفكرين أنها بالفتح اشتقاقاً من العالم، ولكن هذا الجدل هو أخف الجدالات في المجتمع اليمني، وربما كان الجدل الأكبر في علاقة الدين بالعلم، هو حول النظريات العلمية التي قد يراها إسلاميون وعلمانيون متناقضة مع الدين، ويراها آخرون أنها غير متناقضة، وهذا جدل لا مجال لتفصيله في هذا المقال، ويتبعه أيضاً جدل ما يسمى “الإعجاز العلمي” الذي يتبناه بعض الإسلاميين.

 

العلمانية والديمقراطية:

من الجدالات المهمة حول العلمانية هو علاقتها مع الديمقراطية، فبينما يرى فريق من الإسلاميين أن العلمانية كانت غير ديمقراطية في بلدان مثل الاتحاد السوفيتي (ستالين) وألمانيا (هتلر) وإيطاليا (موسوليني)، يرى الفريق العلماني أن تلك الدول غير علمانية أساساً، لأنها غير ديمقراطية، بينما يرى فريق آخر أنها علمانية أخلت بالديمقراطية، وعلاقة الديمقراطية بالعلمانية إشكال يوقع الخطاب العلماني في تناقض، لأنه إن أفرد العلمانية كقيمة ولم يعد يربطها بالديمقراطية، فإنه سيكون مؤيداً ضمناً للاستبداد ضد الدين والمتدينين، أو لا يهمه ذلك الاستبداد في خطابه، وهو ما يراه إسلاميون متنورون نية سيئة تجاه الإسلاميين عموماً، وإن أدرجها ضمن الديمقراطية باعتبارها مبدأ من مبادئها فقد شعار “الدولة العلمانية” الذي يرفعه في مقابل خصومه، إذ سيكون الشعار “الدولة الديمقراطية” والتي تشمل عدة مبادئ منها العلمانية، وهذا ما ينبغي برأيي أن يتجه له العلماني العربي عموماً واليمني خصوصاً حتى يكون أكثر اتساقاً، وأكثر اهتماماً بتحقيق مضمون المفاهيم لا شكلياتها وخاصة في الشأن السياسي.

 

العلمانية والإلحاد:

ومن جدالات العلمانية علاقتها بالإلحاد، وهذا هو أكثر الجدالات بين عموم الإسلاميين والعلمانيين، وهو الجدل الذي وجد لها متطرفون من الفريقين، دفعوا بتلك العلاقة للتأكيد، فالخطاب الإسلامي التقليدي في عقوده الماضية رسخ في الأذهان أنه العلمانية هي الإلحاد والعلماني هو الملحد، دون دراسة للمفاهيم وسياقاتها، وأنواعها وفروقها، فبرغم أن كل الملحدين علمانيون، لكن ليس بالضرورة أن كل العلمانيين ملحدون، إذ هناك من يتبنى المفهوم السياسي للعلمانية برغم إيمانه وبقاءه على دينه، ويرى هؤلاء أن مسمى علمانية يطلق على الدولة ونظام الحكم لا على الفرد، وأما هذا الخطاب الإسلامي كان هناك خطاب علماني يسخر من كل ما هو ديني، ويربط بين سخريته تلك وعلمانيته، بل وصلت أحياناً لتأييده أي انتهاك لحقوق خصمه الإسلامي ويعتبر ذلك علمانية، وهذه حالة زائفة ظهرت بعد الربيع العربي لا يهمها التعايش، بقدر ما يهمها النكاية بالخصم أو الانتقام منه، وهي حالة لا يسلم منها أي تيار سواء كان إسلامياً أو علمانياً.

ومن حق أي فرد أن يختار الدين أو المذهب الذي يريد، ومن حقه أن يجادل في إطار المجتمع المدني بما يراه الأصح أو الأنسب، ولكن في المجال السياسي الأخلاقي علينا أن نحفظ الحقوق الأساسية للإنسان، أي إنسان كان وعلى أي مذهب أو دين، فإذا تأسست الحريات والمواطنة المتساوية وصارت أرضيتها صلبة تحفظ وجودنا جميعاً، فلندع حينها للمواقف المعرفية مرونتها في إطار المجتمع المدني.

تلك القيم الأساسية من الحرية والمواطنة المتساوية لن يختلف عليها الإسلامي العاقل ولا العلماني العاقل، وتعزيزها أولاً يحفظ حقهما الأساسي في الحياة، ومن ثم يبقى جدلهما السياسي والمعرفي في إطاره الطبيعي بعيداً عن لغة القوة والعنف، سواء كانت ذلك العنف والإرهاب عن طريق تكفير الخصم والحكم بارتداده، وما يتبع ذلك من دعوة لمعاقبته بما سموه حد الردة والذي يرفضه إسلاميون آخرون، أو عن طريق التواطؤ مع الأنظمة الاستبدادية والسياسات الإقليمية لإقصاء تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، وأقصد تحديداً المؤمنة بالديمقراطية منها، والتي شكلت أحزاباً وخاضت انتخابات مع خصومها.

ومن الجدالات التي أخذت مساحة لا بأس بها في الإعلام هو مدى وجود المظاهر الدينية في الدول العلمانية، ومدى التصريح بمصطلح العلمانية في الدساتير، ما مدى إعادة التفكير في العلمانية من خلال التركيز على مبادئها من حرية الضمير والمواطنة المتساوية، لا إجراءات الفصل التي ستختلف من مجتمع لآخر بحسب ثقافته، وهذا ما يدعو إليه الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، ويقبله فريق من الإسلاميين المتنورين، وهذا الجدل أخذ مساحة كبيرة، ولا تستطيع هذه السطور اختزاله، لكن يكفي الإشارة له هنا باختصار، وتكمن أهمية هذا الجدل في دخوله مباشرة في التفاصيل التي تحدد بوضوح حدود المفاهيم، ومدى واقعيتها، وكيف يؤثر الواقع الاجتماعي في تعديلها وتنزيلها، وكيف أن التطبيق في الواقع وتلمس الصعاب يجعل المتصارعين أكثر عقلانية وأخف صرامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى