الرسائل المنقوشة على جدران الحضارات البائدة، وغيرها من نصوص على شتى أنواع الرسائل، أزاحت الستار عن جوانب خافية في أحداث تاريخية مفصلية.
في القيادة، مثلاً، كشفت لنا الرسائل الجدارية أن فكرة «التراتبية الإدارية» ليست وليدة الإدارة الحديثة؛ إذ أظهرت رسومات الفراعنة أنه كان لديهم منصب القائد (المدير) وأشخاص تابعون له (مرؤوسون) يأتمرون بأمره. وكانت إضافة مهمة في أدبيات نشأة القيادة. وقد وضعت هذا الرسم الفرعوني في مقدمة أطروحتي للدكتوراه عن القيادة في القطاع المالي. وكذلك الحال مع «حجر رشيد»، الذي تم العثور عليه وكان منقوشاً فيه لغات مترجمة منها الهيروغليفية. فتمكن العالم الفرنسي فرنسوا شامبليون من ابتكار طريقة لقراءة اللغة الهيروغليفية لأول مرة. ومنذ ذلك الحين تمكن العلماء من فهم نواحٍ مهمة في الحضارة الفرعونية.
ومن أشهر الرسائل في العالم تلك التي حفظت أرواح الملايين بعد أن تمكن الإنجليزي آلن تورينغ من اختراق شفرة الجيش النازي الألماني في الحرب العالمية الثانية عبر آلة ابتكرها، حيث صارت آلته «آنغما» تقرأ رموز النازيين السرية في مراسلاتهم فأسهمت في فك طلاسمها. وقد قيل إن هذا الاكتشاف العبقري قد قصر مدة الحرب لنحو عامين، حيث كشفت خطط النازيين الحربية.
وبعيد تحرير الكويت من الاحتلال العراقي عام 1991 كنت أتجول مع أصدقائي في خنادق من مخلفات الجيش العراقي على ضفاف ساحل الكويت فوجدنا ركاماً من الرسائل الاستخباراتية عن أوامر الاستعداد «لغزو قوات التحالف» لتحرير البلاد وتفاصيل تحركات الجيوش التي كان ينكرها النظام. أما زميلنا الصحافي عبد الله العتيبي فقد كان أكثر حظاً منا، حيث حقق سبقاً صحافياً بعد إقدامه على دخول السفارة العراقية في الكويت أثناء انشغال الكويتيين باحتفالات التحرير. ونجح في جمع رسائل حددت لأول مرة قائمة من الأسماء المستهدفة كشخصيات سياسية واقتصادية واجتماعية ورياضية وغيرها، ونشرتها مجلة «المجلة» على صدر صفحتها الأولى.
ومن المفارقات أن تاريخ تأسيس أو وجود الكويت المتعارف عليه وهو عام 1752. قد تغير بُعَيدَ عثور باحث ألماني على وثيقة رحلة مرتضى بن علوان الذي مر في عام 1709 من «بلدة يقال لها الكويت» حسب نصه. ووصفها وصفاً دقيقاً ونشرت في دراسة للباحث السعودي عبد الله العثيمين.
مشكلة معظمنا كعرب أننا أمة شفهية، لا نميل إلى الرسم، ولا إلى التدوين والتراسل. وعليه قلما تجد بلداً يزخر بتفاصيل الحياة اليومية القديمة، ولهذا طوى النسيان الكثير من ثقافتها العربية.
*صحيفة الشرق الأوسط