تَشكلَ الخطاب الديني المعاصر في ظل مركزية الدولة وهيمنتها. وتوقفت المؤسسات المجتمعية التي أنشأت على مدى قرون عدة، المذاهب الفقهية الرئيسة والمدونات الدينية. تَشكلَ الخطاب الديني المعاصر في ظل مركزية الدولة وهيمنتها. وتوقفت المؤسسات المجتمعية التي أنشأت على مدى قرون عدة، المذاهب الفقهية الرئيسة والمدونات الدينية. لم تعد في العالم السنّي قائمة تلك المرجعيات والمذاهب التي شكلت وعي الناس وعلاقتهم بالدين. وفي العالم الشيعي أيضا تحولت الحوزات إلى سلطات وأحزاب سياسية. فما لدينا اليوم من خطاب ديني هو خطاب الدولة الذي ترعاه جامعات الدولة ووزاراتها الرسمية، وتنفق عليه من الموارد العامة. وحتى خطاب الجماعات المناهض أو الموازي، فإنه لم يكن بعيدا عن خطاب الدولة؛ يستمد وجوده ووعيه لذاته من خطاب الدولة نفسه أو من أزمته.
ويبدو مرجحا اليوم، في مرحلة صعود الفرد وانسحاب الدولة، أن يتحول الخطاب الديني إلى الفردية. وتحتم الحالة الدينية القائمة، بما اكتنفها من صراعات وحروب دينية ونمو التطرف والكراهية والعنف المنتسب إليها، خطابا دينيا جديدا يواجه الأزمة، أو على الأقل ينسحب من تغذيتها، ويقدم بدائل وتصورات جديدة لعلاقة الدين بالدولة والمجتمع. فمن المؤكد أن تغير دور الدولة يغير الخطاب، ويشمل هذا بالتأكيد فلسفة الدولة وسياساتها.
لم تعد مركزية الدولة قائمة، ولم يعد دورها التاريخي قائما. ولكن الخطاب الديني ما يزال خطاب الدولة المركزية المهيمنة، ويعتمد افتراضيا على أدواتها ومؤسساتها التي تغيرت كثيرا، وفقدت قدراتها وسلطاتها التي كانت قائمة قبل الشبكية والمعلوماتية.. وبعضها تبخر ولم يعد موجودا. فينشئ الناس اليوم تدينهم وثقافتهم ومواقفهم الدينية، اعتمادا على مصادر مستقلة عن الدول والمجتمعات، وتقع خارج سلطتها وسيادتها.
وفي مرحلة التدفق الهائل في المعلومات والقدرة على تداولها والمشاركة فيها، لم يعد ثمة مجال لخطاب يستند إلى سلطة دينية رسمية أو مجتمعية، ولم تعد ثمة إمكانية لاحتكار معرفة وتفسير وفهم “الحق الذي نزل من السماء”. لم يعد هذا الحق يحتكره أحد، ولم تعد القداسة التي منحت للتاريخ والتراث والتجارب الدينية قائمة، برغم كل ما يرد به على هذه المقولة من حالة الفائض الديني التي تغمر المجتمعات والأفراد والدول على نحو غير مسبوق.
وفي عجز الخطاب الديني “الدولتي” عن مواجهة العنف والكراهية الكاسحة اليوم؛ فإن لم يكن مسؤولا عنها أو إن لم تكن تعكس أزمته، فإنه لم يعد ثمة خيار سوى إعادة النظر في الخطاب نفسه وفي موقعه في الدولة والمجتمع وحدوده وجدواه. فقد أظهرت تطورات الحالة الدينية وتداعياتها أنها ليست فكرا جماعاتيا معزولا، ولكنها خطاب شامل وجارف يهيمن على الدولة والمجتمعات والثقافة والفكر، وأن التطرف يستمد في واقع الحال وجوده وتأثيره من خطاب ديني عام سائد ومهيمن في مؤسسات الدولة ومن ثقافة كاسحة في المجتمع والمؤسسات التعليمية والدينية.
تبدو وجهة الخطاب الديني الحتمية أو المرجحة هي أن يتحول إلى خطاب فردي، فلم يعد في وسع الدول والسلطات سوى أن تكف عن العمل ضد نفسها بالانسحاب من الشأن الديني، وأن تتشكل الثقافة المجتمعية والمدنية والمؤسسات التعليمية استنادا إلى فلسفة ورؤية لا تمنحان قداسة أو حصانة للتجارب الإنسانية التي وصفت زورا بأنها مقدسة أو حق نزل من السماء.
*نقلاً عن جريدة “الغد” الأردنية