تايلور وإعادة التفكير في العلمانية (2/2)
في المقال السابق تحدثت عن الأساس الأول الذي بنى عليه الفيلسوف الكندي شارلز تايلور إعادة التفكير في العلمانية، وهو اختياره لمقاربة مفهومية مرتكزة على غايات طرق الحوكمة السياسية التي هي جوهر العلمانية بدل التركيز على الطرق الإجرائية.
وفي ضوء ذلك يصنف تايلور أنظمة حكم العلمانية عموماً بحسب مواقفها من أداء الشعائر الدينية في الفضاء العمومي، فتحدث على سبيل المثال، عن علمانية “متشددة” وأخرى “مرنة” أو “منفتحة”، وذلك بحسب الطريقة التي تعالج بها هذه الأنظمة المعضلات التي تواجهها عندما تتعارض مبادئ علمانيتها مع طرقها الإجرائية.
فالعلمانية المتشددة تقيد أكثر من غيرها حرية أداء الشعائر الدينية بمقتضى فهم معين لحياد الدولة وللفصل بين السلطتين السياسية والدينية، في حين تدافع العلمانية “المنفتحة” عن نموذج في الحكم يرتكز على حماية حرية الضمير والحرية الدينية، كما يرتكز على تصور أكثر مرونة لمبدأي الفصل بين السلطتين السياسية والدينية وحياد الدولة. يسمي تايلور النمط الأول المتشدد أنظمة حكم علمانية جمهورية، ويسمي المرنة أنظمة حكم علمانية ليبرالية أو تعددية.
ويمكن وفق ذلك التقسيم رسم جدول لنظم الحكم العلمانية يتم بمقتضاه ترتيبها من الأكثر تزمتاً وتشدداً إلى الأكثر مرونة وتكيفاً، وذلك حسب موقفها من أداء الشعائر الدينية في الفضاء العمومي.
ففرنسا رغم أنها تمنع إظهار الرموز الدينية في المدارس العمومية، ولكنها في نفس الوقت تمول المدارس الدينية الخاصة، ومتعهدة بالمحافظة على الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية التي بنيت قبل صدور قانون 1905 وصيانتها، والأعياد الكاثوليكية هناك، شأن القيامة والصعود والعنصرة وانتقال العذراء وجميع القيدسين والميلاد، هي أيام عطل خالصة الأجر، واتفاقية بابوية ما زالت سارية المفعول في منطقة الألزاس موزال منحت بمقتضاها الطوائف الكاثوليكية والبروتسانتية واليهودية امتيازات، وهذه الأمثلة شاهدة على أن الفصل بين الدولة والكنيسة وحياد الدولة لم يطبقا قط في فرنسا بشكل كامل وهي البلد الأكثر تشدداً في العلمانية.
وبناء على تقسيمه لغايات ووسائل العلمانية واعتبار المساواة في الاحترام وحماية الحق في حرية الضمير هما غايتا العلمانية، وفصل السياسي عن الديني وحياد الدولة هما الوسيلتان اللتان تتيحان تحقيق هاتين الغايتين دون الإخلال بتوازنهما، فإنه يرى أن التصورات الأكثر تشدداً للعلمانية، غير متحمسة للحرية الدينية، وينتهي بها الأمر أحياناً إلى جعل الطرق الإجرائية قيماً، ومن ثم إيلائها الأولوية على حساب الغايات. فهي تعطي الأولوية للتطبيق الصارم للفصل بين الدين والدولة أو لحياد الدولة على حساب احترام حق الأفراد في حرية الضمير، ونقاشاتها العمومية حول العلمانية تركز في الغالب على الطرق الإجرائية أكثر من تركيزها على الغايات. وهذا ما يمكننا تسميته “تقديس الوسائل”، إذ غدا الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة وحياد الدولة تجاه الدين قيمتين في حد ذاتهما وجب الدفاع عنهما بكل السبل، وليسا مجرد وسيلتين! ورغم أهمية الوسائل فإنه ينبغي تحديدها دائماً على ضوء الغايات التي تستدعيها. وبالنظر إلى الصراعات بين “السيفين” التي جرت طوال العصر الوسيط وبالنظر إلى أن الحياد تجاه الدين والفصل بين الكنيسة والدولة لم يتحققا فعلياً إلا في القرن العشرين، فإننا نتفهم هذا التركيز المنصب على الطرق الإجرائية. ولكن هذا التركيز يعسر عملية إعادة التفكير في العلمانية في ارتباطها بالتحديات الجديدة التي تواجهها، والموصولة أساساً بشروط إدارة عادلة للتعددية الأخلاقية والدينية المعاصرة.
يذكر تايلور أيضاً أسباب أخرى، غير هذا التعلق بالترتيبات التنظيمية، تفسر لماذا ينحو نظام حكم علماني باتجاه التضييق على حرية أداء الشعائر الدينية. فهناك مجتمعات خولت للعلمانية تحقيق غايات أخرى غير تلك التي أشرنا إليها سابقاً، فعلى سبيل المثال يمكن لنظام حكم علماني أن يكون أكثر تشدداً من غيره تجاه حرية أداء الشعائر الدينية وذلك بمقتضى تكفله بمهمة تحقيق قيمتين تضافان إلى المساواة في الاحترام وحرية الضمير، وهما: تحرير الأفراد من سلطان الدين، والإدماج المدني.
ذلك يعني -بحسب ما يراه أصحاب هذا الاتجاه- أنه بإمكان نظام حكم علماني أن يسعى إما إلى تشجيع الأفراد على التحرر من سلطة الدين، أي إلى علمنة المجتمع والتخلص التدريجي من المعتقد الديني، وإما حصر ممارسة الشعائر الدينية في النطاق الخاص والجمعياتي. هذا التصور للعلمانية يدافع عن رأي أو وجهة نظر سلبية تجاه الدين نفسه وإن بدرجات مختلفة، إذ ينظر إلى الدين على أنه يتنافى واستقلالية الأفراد العقلية. وفي هذه الحالة تصبح العلمانية كما يرى الفيلسوف الفرنسي بينا رويز أداة في خدمة الأفراد فتحررهم من ربقة الدين عبر تنمية ملكة النقد عندهم أو باستبعاد الدين من حياتهم.
يقول رويز:”ولذلك لا يمكننا الاكتفاء بتخليص الدولة من وصاية دينية، بل يجب إضافة إلى ذلك تخليص المواطنين من مختلف أنواع الوصاية التي يمكن أن تفرض عليهم في المجتمع المدني كما في النقاش العمومي”.
وضمن هذا المنظور تبدو علمنة المؤسسات العمومية غير كافية، فعلى العلمانية أن تضيف إلى مهامها مهمة تحرير المواطنين من سطوة “الأوصياء”. وفي هذا الاتجاه نفسه أكد ريجيس دوبري هذه المهمة المنوطة بالمؤسسات الجمهورية، إذ يعتبر أن “الجمهورية هي الحرية مضافاً إليها العقل والديمقراطية، حينئذ هي ما تبقى من الجمهورية عندما يسود الظلام”.
ينتقد تايلور هذا الفهم والاتجاه المتشدد في العلمانية ويرى أنه يثير إشكالات كثيرة في المجتمعات التي تتنوع داخلها تصورات الحياة السعيدة، وأن الفكرة الضمنية التي تنفي عن العقل قدرته على إنجاز مهمته التحررية إلا بشرط وحيد هو أن يتحرر بدوره من كل عقيدة دينية هي فكرة فيها نظر، فهناك أسباب وجيهة تدعونا إلى أن لا نستبعد وجود شخص يعتنق معتقدات دينية أو روحية، ومع ذلك يمكنه أن يستعمل عقله في تسيير شؤون حياته. فبإمكان شخص ما أن يستنتج عقلياً وجود أسئلة ميتافزيقية تشغل غالبية الناس، ولكن العقل البشري والعلم لم يقدما بشأنها أجوبة نهائية أو مقنعة، كما بإمكانه أن يعتبر كل رؤية للعالم لا تسمو بالكائن البشري هي مصدر قلق.
ثم إن إمكانية التصادم بين قيمة التحرر هذه من جهة وقيمتي المساواة الأخلاقية وحرية الضمير من جهة ثانية ذات مخاطر كبيرة جداً، فعندما تستبعد الدولة العلمانية الدين فإنها تتبنى تصورات الملحدين واللادينيين للعالم وللخير، ومن ثم فهي حينئذ لا تعامل المواطنين الذين يولون الدين مكانة في نظام معتقداتهم وقيمهم على قدم المساواة مع شركائهم في الوطن. وهذا الشكل من العلمانية ليس محايداً تجاه المعتقدات الجدية التي تتيح للمواطنين أن يجترحوا منها معنى وغاية لحياتهم، في حين أن الالتزام الحقيقي للدولة بحماية الاستقلالية الأخلاقية للأفراد يقتضي أن تعترف بسيادتهم في اختيار ما يناسب ضمائرهم، وأن تمكنهم من الوسائل التي تسمح لهم باختيار توجهاتهم الوجودية، سواء كانت هذه التوجهات علمانية أم دينية أم روحية.
إن استبعاد هذا الفهم للعلمانية عند تايلور يمكن اعتباره الأساس الثاني في دعوته لإعادة التفكير في العلمانية، وإن إضافة مبدأ ثالث أو وظيفة ثالثة للعلمانية قد جعلنا أمام نمطين أو نموذجين من العلمانية يسمي: الأولى: علمانية “جمهورية” والثانية: علمانية “ليبرالية- تعددية”.
يحمل النموذج الجمهوري العلمانية إضافة إلى دورها في حماية حق الأفراد في المساواة الأخلاقية وفي حرية الضمير، مهمة أساسية هي العمل على تعزيز تحرير الأفراد من سلطة الدين واستبعادها إلى داخل الفضاء الخصوصي، أما النموذج الليبرالي التعددي فإنه يفهم العلمانية على أنها نمط في الحوكمة يهدف إلى إقامة التوازن الأمثل بين الحق في المساواة في الاحترام من جهة والحق في حرية الضمير من الجهة المقابلة، فهو يسمح باللجوء إلى التكيفات الضرورية التي من شأنها الحفاظ على المساواة، أو السماح بحرية أداء الشعائر الدينية في الفضاء العمومي ما دام ذلك لا يمس حق الأفراد في المساواة في الاحترام الأخلاقي.
فالعلمانية الليبرالية التعددية تسعى دائماً إلى المواءمة القصوى بين الحق في الاحترام المتبادل والحق في حرية الضمير، وهي النموذج الأنسب لمعالجة التحديات الجديدة، وإدارة التعدد الديني والأخلاقي المعاصر.
**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.
*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.