تايلور وإعادة التفكير في العلمانية (2/1)
في عام 2007 شكلت الحكومة الكندية لجنة استشارية لدراسة التوافقات المتعلقة بالاختلافات الثقافية، بعد مرور عام على الحوار الذي أطلقه الكنديون حول مكانة الدين في الفضاء العمومي، وحول المطالب المتكررة للتكيّف على أساس ديني، وكان المفكر والفيلسوف الكندي شارلز تايلور على رأس هذه اللجنة.
كندا التي فتحت أبوابها للجنسيات والعرقيات والمذاهب والأديان المختلفة، رأت أنها في حاجة إلى “إدارة التعددية الأخلاقية والدينية”، باعتبارها واحدة من أخطر التحديات التي تواجهها المجتمعات المعاصرة. وباعتبار ما استجد من أسئلة ومن أحداث وسياقات عما كان في الصراعات القديمة بين الكنيسة والسلطة.
تايلور الذي يرى في العلمانية حلاً لإدارة ذلك التعدد يدعو إلى تجاوز التعريف السابق للعلمانية والذهاب لتعريف أدق، يركز على مبادئ العلمانية لا إجراءاتها. ويخالف من يجزم بأن العلمانية مبدأ واضح لا لبس فيه، وأنه يمكن أن يطبق في كل مكان بنفس الطريقة، وأن المخرج للجدل حول مكانة الدين في الفضاء العمومي في غاية البساطة، إذا ما طبقنا مبدأ العلمانية تطبيقاً صارماً، فهذا الرأي بحسب تايلور يفترض أن عبارات من نوع “الفصل بين الدين والدولة” و”حيادية الدولة”، أو التمييز بين “المجال العمومي” و”المجال الخاص” وحصر الدين في المجال الخاص، كفيلة بجعل معنى العلمانية واضحاً. ويرى أن ادعاء وضوح معنى العلمانية وتداعياتها ليس سوى وضوح خادع، فرغم أن هذه التعريفات تنطوي كلها على معان للعلمانية فلا يمكن لأي منها أن يستبد بمعناها، إذ يتضمن كل تعريف منها قدراً من الغموض واللبس، وأحياناً التناقضات، لذلك وجب فك معمياته حتى نحدد ما المقصود بالضبط أن تكون الدولة علمانية.
يرى تايلور إن العلمانية مفهوم معقد، فهي جماع جملة من الأهداف والترتيبات المؤسساتية. ورغم أن بحوثاً حديثة في اختصاصات العلوم الاجتماعية والحقوق والفلسفة قد حققت تقدماً كبيراً على صعيد فهم العلمانية باعتبارها نمطاً من الحوكمة، إلا أنه يعتقد أن تحليلاً مفهومياً مناسباً للمبادئ المكونة لها لم ينجز بعد. وأن هناك حاجة لتجاوز هذا النقص، والوصول لتصور للعلمانية هو الأقرب إلى الحقيقة، يكون بإمكانه أن يحيط بشكل أفضل بالبدائل المتاحة للمجتمعات التي تواجه معضلات مرتبطة بإدارة التنوع الأخلاقي والديني، سواء تعلقت هذه المعضلات بالعلاقة التي ينبغي أن تكون بين دين الأغلبية والقيم والمؤسسات العمومية، أو تعلقت بمشروعية مطالب التكيف المؤسسة على المعتقدات الدينية، أو بمكانة المعتقدات الدينية في النقاشات العمومية، أو بالعلاقة بين الحرية الدينية وحرية الضمير.
ويذهب بناء على ذلك إلى حتمية فهم العلمانية اليوم ضمن إطار واسع يتميز بتنوع المعتقدات والقيم التي يعتنقها المواطنون ويحتكمون إليها. وأن نموذج المجتمع السياسي المؤسس على توافق حول المبادئ السياسية الرئيسية من جهة أولى، واحترام وجهات نظر المواطنين الفلسفية والدينية والأخلاقية من جهة ثانية، لم يفرض نفسه باعتباره النموذج الأقدر على أن يقود أفراد المجتمع نحو تعايش حقيقي وانسجام معقول إلا مؤخراً. وأن التسامح الديني الذي عرفته أوروبا لم يحل دون استمرار الإقصاء أو التهميش في حق بعض الجماعات الدينية لمدة طويلة، شأن الكاثوليك في بريطانيا وأمريكا. ثم إن الدين قد حظي في هذه الفترة بمكانة أفضل من مكانة التصورات العلمانية للعالم. بل إن العلمانية فهمت أحياناً بطريقة عكسية، فتم تصويرها على أنها موقف صارم ضد الدين، كما حصل في الاتحاد السوفيتي وبعض فترات تاريخ فرنسا.
بينما على الدولة أن تلتزم الحياد إزاء مختلف الرؤى السائدة في المجتمع وإزاء تصورات المواطنين للخير، علمانية كانت أم روحية أم دينية، وعلى الدولة أن تدرك أن التنوع الديني هو جانب من جوانب التعددية الأخلاقية التي على الديمقراطيات المعاصرة أن تقبل التعايش معها. وأن التعددية الأخلاقية هي التي تسوغ لأفراد المجتمع تبني تصورات للخير وأنظمة قيم مختلفة، بل متنافرة أحياناً.
ينطلق تايلور في “إعادة التفكير في العلمانية” من إدراك كنه العلمانية، فيرى أن ترديد التعريفات التي تستند إلى صيغ مبسطة لا تدرك كنهها، مثل تعريفات “العلمانية هي الفصل بين الدين والدولة” أو “العلمانية هي حياد الدولة تجاه الأديان” أو “العلمانية هي استبعاد الدين من الفضاء العمومي”. فرغم أن كل صيغة من هذه الصيغ تكشف عن جانب من الحقيقة فإن العلمانية تتأسس على الأصح على مبادئ متعددة بحيث ينهض كل مبدأ منها بوظائف مخصوصة. وما ينبغي الوعي به أن العلمانية جماع قيم ووسائل أو “مبادئ” و “طرق إجرائية” مترابطة ترابطاً متيناً يصعب الفصل بينها. ولهذا السبب فإن عدم الفصل بشكل دقيق وواضح بين غايات العلمانية وطرقها الإجرائية هو أحد أسباب حالات الجمود التي تنتهي إليها المناظرات النظرية والتقنية حول العلمانية، إذ يرفع بعض المتناظرين ما هو من باب الطرق الإجرائية إلى مرتبة تضاهي أو تفوق ما هو من باب الغايات التي تسعى الدولة العلمانية إلى تحقيقها.
أما المبادئ التي تستند إليها العلمانية فهما مبدآن:
• الأول: الحق في المساواة في الاحترام الأخلاقي
• الثاني: الحق في حرية الضمير
وأما الطرق الإجرائية فهي:
* الفصل بين الدين والدولة
* وحياد الدولة تجاه الأديان والحركات الفكرية الأخرى
فالنظام الديمقراطي يعترف في مستوى المبادئ بتساوي المواطنين في القيمة الأخلاقية أو الكرامة الإنسانية، ومن ثم يسعى إلى المساواة بينهم في الاحترام. ويستوجب تحقيق هذا المطمح الفصل بين الدين والدولة وحياد الدولة تجاه الأديان وتجاه الحركات الفكرية العلمانية، فلما كانت الدولة دولة جميع المواطنين وكان لهؤلاء المواطنين تصورات عن العالم وعن الخير مختلفة، وجب على الدولة أن لا تتماهى مع دين مخصوص أو وجهة نظر مخصوصة، ولهذا السبب وجب الفصل بين الدين والدولة، على الدولة أن تكون مستقلة في مجالات اختصاصها، لأن تماهي السلطة السياسية مع تصور ديني أو علماني للعالم يجعل من الأشخاص الذين لا يتبنون المذهب الرسمي للدولة مواطنين درجة ثانية. ومن ناحية أخرى فإن مبدأ المساواة في الاحترام يقضي كذلك أن تكون الدولة محايدة تجاه الأديان وغيرها من المعتقدات الجدية، فلا تدعمها ولا تضطهدها.
ويخلص تايلور: إلى أن العلمانية هي تطوير مستمر للسلسة التي تضمن بمقتضاها الدولة المحايدة تجاه مختلف تصورات الحياة السعيدة المتعايشة في المجتمع الحرية الدينية وحرية الضمير طبقاً لما لها من إرادة من معاملة الجميع على قدم المساواة.
وأن مبدأي الحق في المساواة في الاحترام، والحق في حرية الضمير، هما مبدآن أخلاقيان يهدفان إلى ضبط تصرفاتنا، في حين تشكل إجراءات الحياد والفصل بين السلطتين والتكيف ما يمكن أن نسميه مبادئ أو إجراءات تنظيمية مترتبة على المبدأين الأخلاقيين السابقين، تهدف إلى حماية حرية المواطنين وتجنيبهم الحكم الاستبدادي. وأن قيمة الإجراءات التنظيمية فرعية وليست أصلية، فما هي إلا إجراءات يحتاج إليها لتحقيق الغايات الأخلاقية الصرفة.
فالمبادئ ثابتة بينما الطرق الإجرائية مرنة وتخضع للتعديل والتكيف المستمر، وبناء عليه سيكون لدينا أنظمة حكم علمانية وليس نظاماً علمانياً واحداً يمكن تطبيقه في أي مجتمع.
ويتحدث تايلور بناء على ذلك عن أنظمة “وصل” وأنظمة “فصل” كلها علمانية، فهناك بلدان غربية قليلة ما زالت تعترف بوجود كنيسة رسمية، شأن المملكة المتحدة والدنمارك، وهذه أنظمة “وصل” مرنة تعمل على احترام مبدأي المساواة في الاحترام وحرية الضمير، في حين تمنح أنظمة “الفصل”، شأن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، في الواقع الكنائس ضرباً من الاعتراف. ولهذا السبب يفضّل الحديث عن “أنظمة حكم العلمانية” وليس عن “نظام حكم علماني”، وهي أنظمة تتوسل أشكالاً مختلفة من الفصل والاعتراف بالأديان حتى تحقق الغايتين المذكورتين من “الحرية” و”المواطنة المتساوية”.
**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.
*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.