في نهاية الخمسينيات غادر اليمن لدراسة الثانوية بمصر ليعود مع نهاية الستينيات حاملاً الدكتوراه في البيولوجيا من الولايات المتحدة، ومنذ اللحظة الأولى عمل خارج تخصصه، فقد عمل في مشروع تطوير زبيد على الساحل الغربي لليمن. في نهاية الخمسينيات غادر اليمن لدراسة الثانوية بمصر ليعود مع نهاية الستينيات حاملاً الدكتوراه في البيولوجيا من الولايات المتحدة، ومنذ اللحظة الأولى عمل خارج تخصصه، فقد عمل في مشروع تطوير زبيد على الساحل الغربي لليمن.
وبقي يتدرج في المواقع القيادية للدولة حتى تولى رئاسة الحكومة في منتصف الثمانينات، وفي تلك الفترة كانت العلامة الفارقة لحكومة الدكتور عبدالكريم الارياني أنها أقرت منع استيراد الفواكه وزراعتها محلياً، فثار غضب الشارع اليمني وسخط على القرار، وشيئاً فشيئاً ذهب اليمني إلى المزارع ومرت السنون وأكل اليمنيون التفاح والبرتقال من مزارعهم.
وذات صباح كان الارياني إلى جانب الرئيس صالح وعدد من المسؤولين وشيوخ القبائل في دار الرئاسة وقُدِمَ لهم فواكه يمنية فقال أحد المشايخ: «رضي الله عنك يا دكتور هذا بفضل قرارك الحكيم» وبسماحته المعهودة رد الإرياني: «الحمدلله الذي أحياني إلى زمن أسمع فيه من شتمني بالأمس يترضى عني اليوم».
كان الإرياني هو عقل صالح الحكيم، منذ بداية صعود الأخير للسلطة، ومما يذكره الإرياني أنه كان يكتب لصالح خطاباته، ويجيب عن الأسئلة الصحفية المقدمة لصالح ويسلمها الأخير للصحفيين مكتوبة بخط اليد.
قاد الإرياني الدبلوماسية اليمنية خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات وكانت أفضل حالاً مما هي عليه الآن، ورأس الحكومة ثلاث مرات، ومنذ العام 1997 أصبح الأمين العام للحزب الحاكم، ومثل فيه صوت العقل والحكمة وظل متمسكاً بليبراليته منفتحاً على الجميع، واللافت في سيرته أنه ظل في صدارة صنّاع القرار اليمني لأكثر من ثلث قرن، دون أن يصطدم مع أحد.
كان رجل القرارات الصعبة والشجاعة، كقرار منع استيراد الفواكه، وقرار الإصلاحات الاقتصادية وتحرير أسعار المشتقات النفطية، ومرة سمعته في أحد المؤتمرات الاقتصادية يجيب عن سؤال متعلق باشتداد المظاهرات الاحتجاجية ضد حكومته بالقول: «لن تتوقف الإصلاحات الاقتصادية لو تخرج آخر مظاهر من غرفة نومي».. ذلك أن دعم المشتقات أثرى الكثير من مهربي الوقود إلى القرن الأفريقي.
وحين جاءت ثورة التغيير في 2011 كان الإرياني هو مهندس خروج صالح من الحكم، وكثير ما اشتكى منه صالح بأنه لعب دوراً في إقناع صانع القرار الغربي بضرورة رحيل صالح، خاصة بعد محاضرته في جامعة مدريد منتصف 2011.
ولم تكن تلك لحظة مناسبة لإزاحة صالح فقد سبقها اتفاق في نهاية العام 2010 مع قادة أحزاب المعارضة اليمنية على الذهاب نحو انتخابات رئاسية وبرلمانية وفق نقاط اتفاق ليس بينها التمديد لصالح المنتهي ولايته الأخيرة، فغضب صالح ومزق الاتفاق في وجه الإرياني وتحدث معه بلغة مهينة، وكانت تلك أول محطات الافتراق بين الرجلين.
ومنذ خروج صالح من الحكم حتى اللحظة التي رحل فيها الإرياني كان الأخير هو الوحيد من رجالات المؤتمر الذي وقف في وجه صالح وقارعه وعمل على عزله من قيادة المؤتمر، ورحل وهو يعد لاجتماع موسع للجنة الدائمة «المركزية» للمؤتمر لانتخاب قيادة جديدة.
رحل الارياني وقد هندس خطوات إخراج صالح من الحكم ووقف إلى جانب هادي، محاولاً شد أزر من لا أزر له.. وحين اقتنع أنه يقف إلى جانب أسد له قلب فأر أطلق مقولته الشهيرة: «لو كانت الشرعية عصا مكسورة في غرفة لوقفت إلى جانبها».
في منتصف سبتمبر الماضي اتصل بي الدكتور رشاد العليمي أحد أهم رجالات صالح المنشقين عنه، وطلب الجلوس معي، وخلال اللقاء الممتد لساعة ونصف قال بأن الدكتور الارياني انزعج من مقالي المنشور في هذه الصحيفة المطالب بحل حزب المؤتمر وتجريم الحركة الحوثية في آن، لأن كلاهما بات يمثل خطراً حقيقياً على مستقبل البلاد، فالأول تحول من حزب إلى ميليشيا مسلحة، والأخيرة حركة دينية إرهابية لا تفرق بشيء عن داعش العراق… وبحسب العليمي فإن الدكتور الإرياني درس كل الاحتمالات ووجد أن حل المؤتمر سينثر فوضي اجتماعية وستكون الحركة الحوثية هي المستفيد الأول من حله، وانشقاق قادة المؤتمر وتشكيل حزب جديد لن يمكنهم من احتواء قواعد وأعضاء المؤتمر في كل مكان، ولا حل غير اجتماع أكبر عدد من أعضاء اللجنة الدائمة للمؤتمر «اللجنة المركزية» في عدن أو القاهرة أو الرياض، واتخاذ قرار بعزل صالح وانتخاب قيادة جديدة للمؤتمر، فهذا من وجهة نظر الدكتور الإرياني أقل الاحتمالات كلفة، وأفضلها في بقاء تماسك المؤتمر.
عرفت الدكتور عبدالكريم بن علي الارياني قبل 12 عاماً. حصيفاً، حكيماً، مرناً، متزناً، نقياً، ذكائه بلاحدود، وأخلاقه كسماء الله صافية.. كنت أتتبع مقابلاته وكتاباته خاصة عن البدايات، منذ اللحظة التي قال أنها الأولى التي يرى فيها مدينة وشاحنة تعبر الطريق في «مدينة القاعدة» حين كان هو وشقيقه «مطهر» طفلين ذاهبين إلى عدن لبيع البن.
رحل كسينجر اليمن، ابن سلالة العلم والقضاء، رحل من لا يساوم في المبادئ.
ويكفي الدكتور الارياني أنه رحل وقد خلد عدداً من المواقف.
* نقلاً عن صحيفة الوطن القطرية