الخمس بين مذاهب السنة والشيعة (3/3)
(3) تحريم الصدقة على بني هاشم:
يرتبط موضوع الخمس كما يرى بعض الفقهاء بمسألة تحريم الصدقة على بني هاشم، فما مدى ارتباطها؟ وهل تصلح حجة للقول بالخمس؟
تقول الرواية التي رواها مسلم “إِنَّ هذه الصَّدَقَاتِ إنما هِيَ أَوْسَاخُ الناس وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ ولا لِآلِ مُحَمَّدٍ”([18]).
هذا الرواية الظنية جعلوها أساساً دينياً ثم عللوا أخذ الهاشمي الفقير من خمس الغنيمة بسببها، فخرقوا من أجل تثبيتها قانون الشريعة في توزيع الزكاة، ومقاصد القرآن في توزيع المال، ورسالة الإسلام في المساواة.
في هذه الرواية بعض الإشكالات والعلل تجعلنا لا نقبلها بصيغتها هذه، فإما ردت أو أوّلت، أما الرد فللعل التالية:
– أنها رواية آحاد خالفت عموم القرآن، فآية الصدقات عامة لكل مسلم ويدخل فيها الهاشمي ولا يخصصها خبر آحاد.
– أنها تخالف القرآن الذي من حيث أنه اعتبر الزكاة حق للفقراء والمساكين، فما يأخذه الفقير والمسكين ليس أوساخاً وإنما هو حقه الذي فرضه الله له.
– أنها تسيء للنبي ورسالته فكيف يعتبر النبي عليه السلام الزكاة التي تطهر أصحابها وتزكيهم أوساخاً لآخرين أوساخاً؟! وكيف يقبل الأوساخ لعموم المؤمنين ولا يقبلها لأقاربه؟ هل جاء لتطهير كل المؤمنين أم أقاربه فقط؟!.
– أنها لو كانت أوساخ الناس فلماذا قرر فريق كبير من الفقهاء إباحة صدقة التطوع لهم؟! أوليست الصدقة أيضاً أوساخاً إذا اعتمدنا هذا المنطق؟!
كل هذا ما يجعلنا نشك في الرواية أو في جزء منها.
وأما تأويلها في ضوء القرآن ومقامات النبي فيمكن أن تكون منعاً لأقاربه من أخذ الزكاة لكن دون قبول تسميتها أوساخاً، وسيكون سبب ذلك المنع أحد الأسباب التالية:
– قد يمنعهم لأنهم أغنياء لا يحتاجون، فاجتهاده لا يخرج عن كونه رآهم ممن لا ينطبق عليهم أحد مصارفها الثمانية، ولا يقصد أن يحرمهم بالمرة حتى لو كانوا فقراء ومساكين.
– وقد يكون سبب منعهم ورعاً وحفاظاً لمقام النبوة من أي شبهة يضعها خصومه، وحتى لا يغمز ويلمز في دعوته ورسالته، فيبعد عن نفسه الشبهة التي جاءت في آية الأنعام (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) الأنعام. قال القاضي ابن العربي المالكي في القبس في شرح موطأ مالك بن أنس عن طائفة في تعليلها لمنع النبي أهله من الزكاة: (إنما حرمت عليهم لنفي التهمة عنهم لئلا يقول الناس طلب لنفسه أو جلب جلباً له شطره). وهذا التعليل لا ينسحب على من سيأتي بعد موته.
– وقد يكون سبب منعهم احترازاً من الأخذ من المال العام (الزكاة)، كونه ولي أمر المسلمين، واكتفاء أقاربه عند حاجتهم بما سيعطيهم من سهمه، ولذا سنجد عند الفقهاء اختلافاً في مسألة صدقة التطوع فأجازها الكثير، وصدقة التطوع ليس فيها شبهة المال العام، وبهذا التعليل يمكن أن تعمم تلك الفكرة لكل ولي أمر من بعده، فيمنع أن يأخذ أهله من المال العام والزكاة، احترازاً من الشبهة ولأن سهمه يكفيهم.
قال الشوكاني: “قال أكثر الحنفية وهو الصحيح عن الشافعية، والحنابلة، وكثير من الزيدية إنها تجوز لهم صدقة التطوع دون الفرض، قالوا: لأن المحرم عليهم إنما هو أوساخ الناس، وذلك هو الزكاة لا صدقة التطوع. وقال في البحر: إنه خصص صدقة التطوع بالقياس على الهبة والهدية والوقف”. وهذا يعني أن فقراءهم يمكن أن يأخذوا من صدقات التطوع إذا لم يقبلوا من الزكاة، أو من الهبات، وهذا يلغي علة الخمس التي زعموها.
في كل التأويلات السابقة ستكون مسألة منع أقارب النبي عليه السلام من الزكاة خاصة بمن كان معه بزمنه، ولا تشمل الذرية إلى قيام الساعة، فآله وأهله وأقرباؤه هم من كان معه في زمنه فقط، هذه هي الدلالة الحقيقية لتلك الألفاظ، دون تحميلها لدلالات أخرى لا تحتملها.
لقد صارت هذه الرواية مقدمة على آية قرآنية قطعية، وهذا يبرز لنا كيف تضخمت الفكرة لما تبعها من توسيع للخمس، فردوا ما ثبت بنص قطعي الثبوت والدلالة في مقابل العمل بنص ظني الثبوت والدلالة، جاء في التاج المذهب لأحكام المذهب وهو من أهم مراجع الفقه الهادوي الزيدي قوله: “والمضطر من بني هاشم وهو الذي خشي التلف من الجوع أو نحوه إذا وجد الميتة والزكاة فالواجب أن يقدم أكل الميتة ولا يأكل الزكاة مهما وجد الميتة”([19]). فتأمل كيف سد باب الضرورات والحاجات كلها وأجاز له ما هو أكثر تحريماً، وأعظم ضرراً بالنفس كي يثبت فكرة تحريم الصدقة عليهم، والهدف من وراء ذلك تثبيت الخمس في كل ما ذكروه من أموال، وكي يثبتوا الامتياز الخاص لبني هاشم ولو نقضوا مقاصد الدين والشريعة.
وخلاصة رأيي في هذه القضايا كلها فهو أنها كانت اجتهاداً فقهياً يناسب زمنهم، يوم أن كانت تلك المعادن والركاز شيئاً زهيداً يجده الفرد، فقالوا أن ما وجده له، واجتهدوا في تحديد زكاته بين الخمس وربع العشر ليصرفوها في مصالح المسلمين أو لمصارف الزكاة، أما اليوم فقد صارت المعادن ثروة طائلة، من ذهب وفضة ونفط وغاز وغيره، وصارت هذه الأشياء تبعاً للدولة هي من ينقبها ويستخرجها، ومن ثم فلا داعي للحديث عن زكاتها لأنها كلها ستذهب لخزينة الدولة التي تصرف في مصالح الناس جميعاً، ومن مهام الدولة رعاية كل الفئات التي تستحق الكفاية.
وأما بالنسبة لما جاء في الغنيمة والفيء وما كان يعطى منها للجنود من أربعة أخماس، فبعد تنظيم الجيوش ومنح رواتب دائمة للجنود، فإن أي غنيمة تؤول للدولة، ولا تحتاج إلى تخميس.
وأما بالنسبة للمواطن غير المسلم في بلاد المسلمين فيدفع ما يدفعه المسلم سواء بسواء في كل أنواع الزكاة، لأنها زكاة ارتبطت بالأرض التي يأكل من خيراتها وجمع ثروته فيها، فكان فيها حقاً للفقراء والمساكين، وكما يدفعون مثل ما يدفع المسلمون من زكاة، فإن لفقرائهم ومساكينهم حق من ذلك المال، وهذا هو التطبيق المقاصدي لأحكام وقيم الدين في زماننا.
ــــــــــــــــــــــــــــ
([18]) مسلم ج2/ص754.
([19]) التاج المذهّب لأحكام المذهب للقاضي العنسي 1/213.