جثة هامدة!
ماذا أكتب؟ … عَمَّ أكتب؟ … وكيف أبدأ الكتابة؟
أعجز عن الكتابة.. أعجز عن الامساك بالفكرة، بل عن الامساك بالقلم!
يحدث أحياناً أن تنشلَّ قدرة المرء على التعبير.. أن يعجز عن التسطير.. أن يَحُول شيء بينه وتحبير الورقة.. ثم لا يدري ما السبب!
يحدث ذلك أحياناً..
غير أن هذه الحالة تكاد تكون دائمة الحدوث أو طاغية الحضور في هذه الأيام.. هذه الأيام التي أنطمست ملامحها، وانعدمت ألوانها، وانزاحت هويتها على نحو بالغ البشاعة.
لقد قتلوا فينا رغبتنا في كل شيء.. في الفرحة والضحكة والابتسامة.. في التفكير والتأمل والكتابة .. في القراءة والتنزُّه والاستماع للموسيقى أو مشاهدة الأفلام.. في أحاديث الرومانسية ولذة الجنس.. وفي الطعام والشراب والنوم والسهر..
هؤلاء جميعهم، قتلوا فينا رغبتنا في كل شيء!
صارت أيامنا وليالينا مجرد photocopy من بعضها ومن سواها.. لا جديد فيها البتة، ولا حتى قديم.. حالة ضبابية، رمادية، هلامية، دخانية، ومبهمة على نحو مرعب.
لا شيء يشبه شيئاً.. ولا شيء يقود إلى غيره.. ولا شيء يوحي بما هو ممكن أو معقول أو لازم.. فكل الآفاق مسدودة قبالة الوعي والوجدان، البصر والبصيرة، الشك والايمان، على حدٍّ سواء.
ترى العوام كالهوام.. أو كالجماد أحياناً.. لا يرون، لا يسمعون، لا يشعرون.. ولا يعون أو يرعوون.. واِنْ تكلموا، فلا لغة في كلامهم، ولا هم ينطقون!
وتراهم كأنهم مخدرون بحشيشة أنبتها الشيطان في أحاسيسهم، وخصَّبها في وجدانهم، وحصدها في حواسهم، ثم نفث دخانها في رؤوسهم، حتى باتوا لا يفقهون اِنْ هم سائرون أم قاعدون.. قادمون أم عائدون.. نائمون أم نائمون أم نائمون أم تراهم ميتون.
لم نكن يوماً في حال كهذي الحال التي نحن فيها اليوم.. مات فينا كل مسام للصحو، أو للفهم، أو للارادة.. وانسدّت فينا كل شرايين الأنسنة وأوردة البشرنة.. حتى عافتنا الحيوانات التي صرخت اذا مسّها الضر، وهاجت اذا تعرضت للاهانة، وغضبت من تجويع أو تعذيب أو اذلال بكلمة زجر لا رمية حجر.
لي صديق أعرفه منذ عقود أربعة. كان في ما مضى، لا يكاد يصحو من سُكْر، وكأس الخمر لا تكاد تفارق يده.. وبرغم ذلك كنت أجده دائماً متقد الذهن، حاضر البديهة، وفي كامل قواه العقلية. ألتقيته منذ زمن قريب وقد أقلع عن شرب الخمر نهائياً، لكنني ألفيته شارد العقل، مضطرب الادراك، يكاد يكون منعدم الاحساس بالوجود حوله.
حين رأى استغرابي من حاله، قال لي: لم نكن يوماً نتخدّر من خمر، لكننا اليوم مخدرون من هذا الأمر. وأشار إلى الفضاء الممتد حوالينا. وفهمت معنى الأمر في معنى العبارة .. وهو معنى في غاية المرارة!
…
ماذا أكتب؟ … عَمَّ أكتب؟ … وكيف أبدأ الكتابة؟
إن العجز يداهمنا من كل الجهات الأصلية والفرعية.. ومن دواخلنا. ولم نكن يوماً على هذي الحال كما نحن اليوم. ولم يعد ثمة شيء يُشي بأننا لا نزال على قيد الحياة، ناهيك عن قيد العيش..
نعم.. نحن مجرد جثة هامدة على صفيح شديد البرودة في عراء بالغ الوحشة!