فوز أردوغان وحزبه أثار جدلا واسعا ليس لمجرد الفوز وتأثيراته السياسية على المنطقة ولكن تعدى إلى مسألة استجلاب تجربة أردوغان وإسقاطها في بلدان أخرى كما حدث في اليمن، تماما.
فوز أردوغان وحزبه أثار جدلا واسعا ليس لمجرد الفوز وتأثيراته السياسية على المنطقة ولكن تعدى إلى مسألة استجلاب تجربة أردوغان وإسقاطها في بلدان أخرى كما حدث في اليمن، تماما.
في السابق، كان الحديث عن أردوغان يقتصر على الإعجاب بتناغمه مع تطلعات الشعب التركي ونقل بلده إلى مصاف الدول الرائدة بفترة زمنية، هي نفس الفترة التي يحتاجها حكام العرب فقط للتموضع على مُقدرات البلد، وتوطيد الملك.
اليوم، ومن وسط الحرب، تقول قيادات الأحزاب السياسية ذات المرجعية الاسلامية في اليمن إن التجربة التركية ناضجة وينظرون لها باعتزاز وإكبار، ورغم موضوعية هذا القول إلا أنه لا يتسق مع بقاء تلك الاحزاب على ما هي عليه من مفاهيم إسلامية، وتجربة أردوغان خرجت من مفاهيم التراث الاسلامي وانتقلت إلى مبدأ المصلحة والممكن.
وحين أعلن رئيس حزب الاصلاح في آخر كلمة له أن الاصلاح يستقي أدبياته من مدرسة ابن الأمير والشوكاني والشوكاني فإن هذه المدرسة لا تقر إلا بحكم الشريعة الاسلامية بخلاف أردوغان الذي تعدى هذا التراث وتجاوزه، وفي الحوار الوطني ظلت جدلية مرجعية الشريعة الاسلامية بين حزب الاصلاح والرشاد من طرف وبقية الأحزاب من طرف آخر ماثلةٍ حتى وصلت إلى احدى الظواهر المعقدة.
وهنا نتساءل، ما هو النموذج الذي قدمه أردوغان حتى نحج في قيادة تركيا وأثار إعجاب الإسلاميين في اليمن؟
تجربة أردوغان لم تكن يوماً ما تُستمد من الشريعة الاسلامية ولا من العلمانية الأتاتركية المتطرفة، ولكن انطلقت من قواعد إنسانية وأخلاقية بحته تطابقت مع بعض مقاصد التشريع الاسلامي بنفس الوقت لم تصطدم مباشرة مع العلمانية.
تجربة أردوغان انطلقت من التنمية، المصداقية مع شعبه، العدل، الشفافية، وهذه كلها من ركائز الحكم الرشيد، وهي ذاتها لا تتناقض مع مقاصد الشريعة الاسلامية في الحكم ولا تتصادم مع العلمانية.
جاء أردوغان في وقت كان القانون يقول لا يحق للطالبة المُتحجبة أن تدخل الجامعة، فقال أردغان: لا، بل يحق للمرأة المتحجبة أن تدرس كما هو الحق لدى الكاشفة رأسوها، هذا هو نموذج أردغان في مفهومه المختصر.
لم يقتصر الأمر على قيادات الإصلاح بل تعدى إلى قيادات سياسية مؤثرة في التيار السلفي، وإن كان إعجاب الاصلاح واستجلاب نموذج أردوغان إلى اليمن يُـثير الجدل فإن إعجاب قيادات سلفية يُـثير الدهشة، وما لا يمكن فهمة هو ذلك الاتساق الذي ظهر رغم أن منهجية التيار السلفي القائمة على “النص الشرعي” في الشؤون السياسية لا تتوافق مع برجماتية نظام اردوغان القائمة على الممكن والمصلحة.
ربما هناك سبب واحد يفسر هذا التحول، وهو القراءة اللحظية السياسية لموقع تركيا باعتبارها الملاذ الآمن الذي يمكن الاتكاء عليه على المدى القريب، واحتضانها لقيادات القوى الاسلامية من سوريا ومصر واليمن بعد أن اُجهضت مشاريع الثورات العربية في تلك البلدان، ولو كان نظام مرسي باقيا لما حصل هذا التهافت حول أردوغان باعتبار مرسي كان النموذج الأقرب للإسلاميين في اليمن وأولوياتهم في السياسة.
شيء آخر وهو أن الانشداه بتجربة أردوغان جاءت نتاج من حالة اليأس والإحباط التي حدثت في عموم دول الثورات العربية وانتكاسة المشروع الديموقراطي في مصر، وبنفس المنطق اُعجب كثير من الشباب المتحمس لمشروع خلافة البغدادي حين أبرزت مخالبها أمام المشروع الإيراني وطائفية المالكي وطغيان الأسد.
وفي اليمن هناك مشكلة وهي حالة إحباط تأتي من وسط الحرب التائهة، لكن المشكلة التي تقف مستقبلاً إذا ما فكر حركات الاسلام السياسي جر تجربة أردوغان أو جزء منها هي محاولة في تهجين المشروع الاسلامي والمشروع السياسي، وهو ما سيمثل تناقضا مفاهيمياً وفكريا، وقيد الفشل ما لم يحدث أمرين:
إما أن تخرج الأحزاب ذات المرجعية الاسلامية عن “النص الشرعي” وتقييداته كما فعل اردوغان حين خرج عن مدرسة نجم الدين اربكان حينها ستصبح الأحزاب علمانية معتدلة أولوياتها “التنمية”.
أو تستمر بالعمل السياسي تحت مظلة المفاهيم الاسلامية ومقاصد الشريعة في الحُكم في “حفظ الدين وسياسية الدنيا به” وفقا لابن خلدون، وتصبر على أي صدام مع المجتمع الدولي الذي لا يؤمن بمشاريع “النص الشرعي” والخروج عن وصايته.
وفضلاً عن تلك الخيارات، فإن اسقاط تجارب سياسة بلد إلى بلد آخر لن تكون ناجحة ما لم تكن متسقة مع المجتمع نفسُه، فإيران الخمينية في تماسكها السياسي جاء نتيجة لتوافق المشروع السياسي الخميني مع التوجه المجتمعي ذو الأغلبية الشيعية، وليس بالإمكان نقل تجربة الخميني لتركيا، ولا العكس صحيح، رغم نجاح كلا منهما في بلدهم، لذلك فإن نجاح مشروع القوى الاسلامية في اليمن لن يكون بإسقاط تجربة أردوغان في اليمن مالم يكن متسقا مع الوسط المجتمعي وثقافته.
في الوقت الراهن، اليمن لا تحتاج لشيء سوى معجزة لإخراجنا من هذه المِحنة التي مزقت النسيج الاجتماعي وليس لأردوغان، فلنبحث عن هذه المعجزة جميعا بعيدا عن الأحلام الوردية والمشاريع الجاهزة من الخارج.