آراء ومواقف

الجلبي في حياته ومماته

فهد الخيطان

رحل أحمد الجلبي عن الدنيا يوم أمس؛ سكتة قلبية مفاجئة وضعت نهاية لحياته. مات في العراق الذي عاد إليه محمولا على ظهر دبابة أميركية. رحل أحمد الجلبي عن الدنيا يوم أمس؛ سكتة قلبية مفاجئة وضعت نهاية لحياته. مات في العراق الذي عاد إليه محمولا على ظهر دبابة أميركية.
عاش ردحا من الزمن في عمان، ولمع نجمه كواحد من أذكى وأخبث رجال الأعمال. لم يعرف عنه انشغاله بالسياسة والمعارضة. انكب لسنوات على بناء مؤسسة مصرفية “بنك البتراء”، وانتهى مطلوبا للقضاء بعد فضيحة مجلجلة هزت أركان الاقتصاد الأردني، وما تزال ملفاتها مفتوحة حتى يومنا هذا.
وفق الرواية شبه الرسمية، هرب الجلبي من الأردن إلى سورية ثم لبيروت، مختبئا في الصندوق الخلفي لسيارة أحد معاونيه. حياته في عمان حافلة بالإثارة، ومليئة بالألغاز. اخترق النخبة العَمّانية بشكل سريع، واقترب من أضيق حلقاتها، وبكرمه البالغ كسب قلوب أعتى السياسيين.
في حضوره وغيابه شكل الجلبي لغزا محيرا، لم تفكه أطنان الورق التي كتبت في وصف الفضيحة وما تلاها من تداعيات اقتصادية وسياسية، وأسئلة عن هروبه لم تلق أجوبة شافية.
ثمة من يعتقد، وحتى يومنا هذا، أن الجلبي و”البتراء” كانا ضحية لمؤامرة مدبرة، تقف خلفها حسابات عابرة للحدود، ومصالح اقتصادية لنخبة من رجال الأعمال والساسة المحسوبين على نظام صدام حسين.
لكن الثابت في المحاضر والتقارير السرية والعلنية، هو أن الجلبي مغامر تلاعب بأموال المساهمين والعملاء، وأفلس البنك، وطار بنصيبه، تاركا أزمة تطلّب حلها تسويات مؤلمة بمئات الملايين.
في نظر الأغلبية الساحقة في الأردن، الجلبي “لص” مطلوب للقضاء. وفيما بعد، لازمته صفة “العميل” بعدما تكشف دوره في التخطيط لغزو العراق. وتلك أهم محطة في حياة الجلبي الذي تحول من مصرفي، إلى معارض سياسي، فور مغادرته الأردن.
لم يعد ذلك التاريخ سرا. والجلبي لم ينتظر موته كي يكتب الآخرون سيرته من بعده؛ كتبها بنفسه، وروى القصة في حياته، مثلما روى غيره من رجال الحقبة في أميركا عن الساعات الطويلة التي قضوها مع الجلبي لفبركة الأدلة عن امتلاك العراق للأسلحة الكيماوية، وحشد القصص الملفقة والأكاذيب، وتهيئة الرأي العام لقرار غزو العراق العام 2003.
كان يعرف في قرارة نفسه أن كل ما يفعله يجافي الحقيقة. لم ينكر ذلك في أحاديث صحفية مؤخرا. كان كل ما يريده جلب أميركا إلى ساحة الحرب، وإسقاط النظام العراقي، وليكن بعدها ما يكون.
التقت طموحات الجلبي مع إرادة المحافظين الجدد في أميركا وإسرائيل، فوقعت أكبر كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية؛ غزو العراق وما خلّف من دمار وضحايا، وأهوال ما تزال منطقتنا تدفع ثمنها حتى اليوم، وستبقى إلى مستقبل غير منظور.
كان الجلبي بطل الفضيحة الثانية. لكن هذه المرة مؤامرة كبرى على بلاده وأمته، نال الجلبي بعدها كرسيا في مجلس بريمر الذي كان أول ما اتخذ من خطوات، حلّ الجيش العراقي وتفكيك الدولة، وصوغ دستور طائفي أسس لحرب أهلية مديدة، وأطلق المارد الإرهابي.
حتى مماته، ظل الجلبي يحلم بمنصب رئيس الوزراء؛ ناور في كل الاتجاهات، ونقل البندقية من الكتف الأميركي إلى الكتف الإيراني، باع واشترى في السياسيين، لكنه لم ينل المنصب. مات وهو لا يحمل غير ذلك الوصف.
*نقلاً عن جريدة “الغد” الأردنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى