كتابات خاصة

منهجان في التعامل مع الرواية

د. عبدالله القيسي

بين حين وآخر يدور جدل حول رد روايات في كتب الحديث وقبولها وفي كل مرة تنهال التهم على من يرد تلك الروايات.. والقارئ في التراث الأصولي وتاريخ العقل الإسلامي بين حين وآخر يدور جدل حول رد روايات في كتب الحديث وقبولها وفي كل مرة تنهال التهم على من يرد تلك الروايات.. والقارئ في التراث الأصولي وتاريخ العقل الإسلامي يجد أن التعامل مع الروايات ردا وقبولا كان له منهجان في الفكر الإسلامي تصارعا في القرن الأول والثاني ونصف الثالث، وهما مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، وهذه القصة التي يرويها مالك في موطأه تلخص اتجاه تلك المدرستين.
أخرج مالك في الموطأ عن ربيعة قال: سألت سعيد بن المسيب، كم في إصبع المرأة؟ قال عشرة من الإبل. قلت ففي إصبعين؟ قال عشرون. قلت ففي ثلاث؟ قال ثلاثون. قلت ففي أربع؟ قال عشرون.
قلت (أي ربيعة): حين عظم جرحها نقص عقلها (ديتها). فقال له سعيد: أعراقي أنت؟ فقال ربيعة: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم، فقال سعيد: هي السنة.
فمدرسة الرأي رأت في تلك المسألة تناقضا غير مقبول، إذا كان يفترض أن تزيد الدية مع زيادة جرج الأصابع لا أن تنقص، بينما مدرسة الحديث قبلت بالموضوع برغم ما فيه من عدم اتساق مع المنطق العقلي، خوفا من رد الرواية المنسوبة للنبي.
انبثق عن ذلك الصراع منهجان في التعامل مع الرواية، تلاشى الأول واشتهر الثاني ويمكن إجمال المنهجين كالتالي:
المنهج الأول: هو المنهج الأصولي الذي تمثل بمدرسة أهل الرأي في العراق وفي الحجاز، والذي اشتغل عليه ووسعه علماء الكلام حين تحدثوا عن المتواتر والآحاد ومدى إلزامية كل واحد، وشروط قبول الآحاد في الأحكام، وهي كلها شروط تخص المتن.. وشروط هذه المدرسة يمكن إجمالها بخمسة شروط كما سيأتي.
المنهج لثاني: هو منهج المحدثين والذي تمثل بمدرسة أهل الحديث في الحجاز وفي العراق، والذي وسعه علم مصطلح الحديث فيما بعد، وهؤلاء انطلقوا من حجية خبر الآحاد وركزوا على شروط السند وأغفلوا المتن، وشروط هذه المدرسة هي الشروط الخمسة المشهورة كما سيأتي.
شروط منهج الأصوليين:
أكثر من تحدث عن هذه الشروط هم الأصوليين الأحناف لأنهم الأقرب لمدرسة الرأي، ولكن هناك أصوليين آخرين ذكرها، وقد أجملها الأصولي الشافعي أبو إسحاق الشيرازي (ت476هـ) في كتابه اللمع بقوله:
إذا روي الخبر ثقة رد بأمور:
1- أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول وأما بخلاف العقول فلا.
2- أن يخالف نص كتاب أو سنة متواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ.
3- أن يخالف الإجماع فيستدل به على أنه منسوخ أو لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون صحيحا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه.
4- أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على الكافة علمه فيدل ذلك على أنه لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون له أصل وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم.
5- أن ينفرد برواية ما جرت العادة أن ينقله أهل التواتر فلا يقبل لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية فأما إذا ورد مخالفا للقياس أو أنفرد الواحد برواية ما يعم به البلوى لم يرد وقد حكينا الخلاف في ذلك فأغنى عن الإعادة. (اللمع في أصول الفقه ص82).
شروط المنهج الثاني:
يعتبر الحديث صحيحا عند هذه المدرسة إذا انطبقت عليه الشروط التالية:
1. اتصال السند: ومعناه أن كل راوٍ من رواته قد أخذه مباشرة عمن فوقه، من أول السند إلى منتهاه.
2. عدالة الرواة: أي أن كل راوٍ من رواته اتصف بكونه مسلما، بالغا، عاقلا، غير فاسق، وغير مخروم المروءة.
3. ضبط الرواة: أي أن كل راوٍ من رواته كان تام الضبط؛ إما ضبط صدر، وإما ضبط كتاب.
4. عدم الشذوذ: أي ألا يكون الحديث شاذا. والشذوذ: هو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه.
5. عدم العلة: والعلة: سبب غامض خفي، يقدح في صحة الحديث، مع أن الظاهر السلامة منه . (انظر مقدمة ابن الصلاح وتدريب الراوي للسيوطي)
كل منهج من هذين المنهجين يتسع ويضيق، ويتشدد ويتساهل، بحسب اجتهاد الفرد ومعاييره في التطبيق، فنجد هذا يقبل حديثا وذاك يرده داخل منهج الأصوليين أنفسهم، ونجد هذا يصحح حديثا وذاك يضعفه داخل منهج المحدثين أنفسهم.
منهج الأصوليين أقدم كتابة من منهج المحدثين وأكثر تماسكا، وهو بحاجة لمزيد قراءة وتجديد لتتضح صورة الحديث في أي من مقامات النبي هو، بينما منهج المحدثين ضعيف واخترقت شروطه الخمسة من قبل الوضاع، ودخلت عبره أحاديث كثيرة تخالف العقل والقرآن، ولكنه انتصر لعدة عوامل، منها ما أحدثه أصحابه من اتهام وتفسيق وتكفير وتبديع لمخالفيهم جعل عامة الناس تسلم لهم وتراهم الأورع، ومنها دعم السلطة السياسية في فترات زمنية متعددة ابتداء من المتوكل العباسي..
اليوم للأسف لا يعرف كثير من الناس هذا الصراع التاريخي بين المدرستين، لأن مدرسة واحدة صارت هي السائدة والمسيطرة على كل الخطاب الإسلامي، ولو أنهم قرأوا كتب أصول الفقه القديمة وكتب المتكلمين، لعرفوا كثيرا مدى الاتساع في هذه المسألة ولتخففوا من جهلهم وتعصبهم حولها.
**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.
*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى