يمن مونيتور/العربي الجديد
أصبح الصحافي اليمني جميل مفرح مهدداً بالطرد من شقّة سكنية يقطنها بالإيجار، بعد إصدار محكمة شمال أمانة العاصمة صنعاء، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حكماً يقضي بسرعة إخلائها وترميمها ودفع كامل المتأخرات، تحت وصاية وإشراف المحكمة. ومفرّح واحد من بين مئات الصحافيين اليمنيين الذين فقدوا مصدر دخلهم بعد توقّف مئات الصحف الورقية في البلاد، منذ بدء الحرب قبل أربع سنوات، وهو أب لثلاثة أطفال، ويعيش في شقّة لا تتجاوز قيمة إيجارها 58 دولاراً (32 ألف ريال).
كان مفرّح يعمل نائباً لمدير التحرير في صحيفة رسمية، ويقول “تم إقصائي نهاية عام 2015، ومنذ ذلك الحين لم أنقطع عن المؤسسة وأداوم من دون عمل أو تكليف ما لا يقل عن خمسة أيام أسبوعياً، طوال أكثر من أربع سنوات”. ويضيف، في حديث لـ”العربي الجديد”: “كان مجموع دخلي يقارب الألف دولار (كان سعر الدولار الواحد 210 ريالات)، لكن المبلغ تقلّص بعد الحرب حتى أصبحت كبقية موظفي الدولة من دون دخل بشكل قطعي”.
ساهمت الحرب، بما خلفته من انقسام سياسي وطائفي وعنصري، في تسريح مئات الصحافيين وهروبهم أو انقطاعهم عن أعمالهم، في كل من صنعاء وعدن وتعز وكثير من محافظات البلاد، وهو ما شكّل إلى جانب انقطاع مرتبات الصحافيين في القطاع العام منذ أواخر عام 2016، أزمة إسكان كبيرة، نتيجة عجزهم عن سداد إيجارات مساكنهم. هذه الأزمة تزامنت مع نزوح نحو مليوني يمني من الأرياف التي تعرضت للقصف ومناطق الصراع إلى المدن الرئيسية، بما فيها العاصمة صنعاء التي استقبلت عددا كبيرا من النازحين، ما دفع مالكي العقارات المؤجّرة إلى محاولة الضغط على المستأجرين من دون مراعاة ظروفهم.
يقول مفرّح “حاولنا عند بدء انقطاع المرتبات الضغط على مالك العمارة التي أسكن فيها ليتم تخفيض الإيجارات إلى النصف، وهو ما حدث، لكنه لم يستمر كثيراً، حتى وصل به الحال إلى ملاحقتي قضائيا، حتى إن المحكمة حكمت عليّ بدفع ما يقارب 460 ألف ريال (836 دولارا) كديون متأخرة، وهي المبالغ التي أسقطها المؤجر من الإيجار في وقت سابق، إلى جانب ترميم الشقة بالكامل، وهذا سيتطلّب 600 ألف ريال على الأقل (1100 دولار)، وأنا لا أملك في الوقت الحالي أي مصدر للدخل”. ويأتي حكم المحكمة بعد توجيهات السلطات في صنعاء (يديرها الحوثيون) في عام 2017 بالتخفيف على المستأجرين وعدم مضايقتهم، إلى جانب توجيهات أخرى أواخر عام 2019 تقضي بمنع رفع الإيجارات أو التعامل بالدولار بين المؤجر والمستأجر.
أزمة قطاع
ليس جميل مفرح وحده من فقد مصدر دخله نتيجة انقطاع المرتبات. إذ أعاقت الحرب بشكل شبه كلي صدور الصحافة المطبوعة ليصل العدد مع نهاية عام 2019 إلى ما لا يزيد عن عشر صحف ومطبوعات في صنعاء ومثلها في عدن وتعز، بعد أن وصلت في عام 2014 إلى نحو 260 صحيفة ومطبوعة، ما بين يومية وأسبوعية ودورية، من بينها نحو 160 خاصة و38 حكومية ونحو 45 حزبية.
في ديسمبر/كانون الأول الماضي، تداولت مجموعة من الصحافيين اليمنيين على صفحاتهم في موقع “فيسبوك”، قصة صحافي آخر كان حتى مطلع عام 2015 نائباً لرئيس قسم الاقتصاد في واحدة من أهم الصحف اليمنية التي توقّف صدورها من صنعاء آنذاك. الصحافي نبيل الشرعبي، الذي اختير في عام 2014 ضمن أبرز عشر شخصيات في مجال مكافحة الفساد في اليمن، ترك العمل الصحافي مع اندلاع الحرب وسلك طريقاً آخر، يقضي خلاله كل يومه في تجميع العلب البلاستيكية من النفايات، يجوب شوارع صنعاء بحثاً عن رزق يقتات منه وأطفاله، بعيداً عن العمل الصحافي الممجد للسلاح والقتل والمبرر للجرائم واحتلال الأرض تحت مظلة التحرير.
ومثل الشرعبي كثير من الصحافيين الذين تخلّوا عن العمل الصحافي منذ بدء الحرب على اليمن واتجهوا نحو أعمال أخرى، فتجدهم يعملون في المطاعم والباصات والمحال التجارية وحتى بيع القات أو الحراسة والعمل على الدراجات النارية ومنهم من أقفل عليه داره، إما خوفاً من الاعتقال في أي منطقة في البلاد ومن قبل أي طرف، أو لقناعتهم بأن هذه الحرب لعنة يجب التوقّف عن استثمارها.
وفي اليمن، تزداد معاناة الصحافيين، في ظل انقطاع المرتبات من دون أن يكون هناك مخرج من المحنة. حتى المنظمات الإغاثية تحرم كثيرا منهم من السلال الغذائية ولا توافق على إدراجهم ضمن قوائم المتضررين من العدوان كغيرهم، كما يقول حسن شرف الدين، أمين عام اتحاد الإعلاميين اليمنيين، لـ “العربي الجديد”. وبحسب شرف الدين، فإن “ارتفاع الأسعار وعدم قدرة الإعلاميين على توفير القوت الضروري لأسرهم، يفاقم معاناتهم ويجعل أطفالهم ونساءهم معرّضين للإصابة بأمراض مختلفة كسوء التغذية، بل قد يكونون هم عرضة للأمراض المعدية ولا يستطيعون تلقي العلاج بسبب ضعف الحالة المادية”، وفي صنعاء أيضاً، توفي صحافيان نتيجة إصابتهما بفيروس H1N1، مطلع الشهر الماضي.
ويرى الصحافي شرف الدين أن “مشكلة المضايقات التي يتعرض لها الصحافيون تعود إلى أن أغلبية العاملين في هذا الحقل لا يملكون مساكن خاصة ويسكنون في بيوت وشقق بالإيجار، وهو ما جعلهم عرضة للوقوف أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما دفع متأخرات الإيجارات المتراكمة منذ انقطاع الرواتب ونقل البنك المركزي إلى عدن، وإما طردهم وأسرهم، وملاحقتهم عبر أقسام الشرطة والنيابات والمحاكم”.
استثناء نادر
على الرغم من ذلك، فإن صحافيين يمنيين يعملون في وسائل إعلام دولية وعربية، يعيشون وضعاً اقتصادياً مستقراً إلى حدٍ ما، لكنهم يتعرضون إلى المضايقات من قبل الأطراف المتصارعة، خصوصاً في ظلّ الحرب التي تجعل بيئة عملهم أكثر خطورة على سلامتهم، بالإضافة إلى أن كل طرف داخلي يتعامل معهم على أنهم يتبعون الطرف الآخر؛ ما يشكل صعوبة في التجاوب مع التصريحات المطلوبة والحصول على المعلومات، بل قد يعرّضهم للاعتقال ومصادرة أجهزتهم. لكن ثمة مهارات وقدرات يتطلّبها العمل لمصلحة الصحف والمواقع الأجنبية والعربية، لا يمتلكها كثير من الصحافيين اليمنيين، إذ تقتصر طبيعة عملهم في منصات النشر الداخلية على ضخ أكبر عدد من المواد المنشورة.
يقول الصحافي الاستقصائي محمد الحسني، إن الكتابة للصحف والمواقع العربية والأجنبية تتطلب نوعاً من الاحترافية في تقديم الأعمال، بدءاً من نوعية الأفكار وطريقة توثيقها وسردها، ويضيف في حديث لـ”العربي الجديد”: “الكثير من الصحافيين يجدون التعامل مع الإعلام الدولي بالغ الصعوبة، نظرًا لرفض غالبية الأفكار وعدم قبولها بالطريقة التي يتم عرضها”. ويرى الحسني “أن السبب في ذلك هي المواقع المحلية التي أصبح همها الكم في نشر المواد على حساب الكيف، وعدم خضوع غالبية المواد لمعايير صحافية تحكم أسلوب الكتابة وعرض المواد والقصص، وبالتالي يصبح الصحافي متساهلاً في تقديم مواده، مما يؤدي إلى الحكم على الصحافة غير المحلية بالصعبة وغير المتاحة”.
إلى جانب ذلك، فإن الصحافة اليوم في اليمن تقتصر على الحملات الممنهجة والمدعومة من قبل أطراف الصراع الداخلية والخارجية ضد بعضها البعض، وبالتالي فهي سلاح آخر من أسلحة الحرب، ليس لها من ضحايا سوى عامة الناس الذين تتم المتاجرة بمعاناتهم واستثمارها أمام الرأي في ظل تجاهلها على أرض الواقع؛ ما يجعل الصحافي يلجأ إلى البحث عن طريق آخر، يكون فيه واحداً ممن يعاني ويلات الحرب مع أكثر من 25 مليون يمني، بدلاً من أن يكون أداة من أدوات الحرب.