كتابات خاصة

ويكون الدين لله

د. عبدالله القيسي

من يتأمل مفهوم الجهاد في القرآن سيجد بوضوح أنه مفهوم أوسع وأعم من مفهوم القتال، فالجهاد مفهوم عام بينما القتال مفهوم خاص ، فالجهاد جاء من بذل الجهد، وهو بذل الجهد  في إحقاق الحق وإبطال الباطل، ويدخل تحت ذلك جهاد النفس، وبيان الحق بالحكمة والجدال بالتي هي أحسن.

كان يرفع صوته عاليا في الخطبة بقوله: إن المسلمين تقاعسوا عن الجهاد فأخزاهم الله وأذلهم، فقلت: ربما يقصد الجهاد بمفهومه العام، أي بذل الجهد في إحقاق الحق وإبطال الباطل بالوسائل القانونية المسموحة، وإذا به يخلط بين الجهاد والقتال، ذلك الخلط يعود أساسه لتراثنا الديني نفسه، حين اعتبر مفسرون وفقهاء أن آيات الجهاد هي ذاتها آيات القتال، بينما نجد أن القرآن يفرق بينهما مبنى ومعنى.

من يتأمل مفهوم الجهاد في القرآن سيجد بوضوح أنه مفهوم أوسع وأعم من مفهوم القتال، فالجهاد مفهوم عام بينما القتال مفهوم خاص ، فالجهاد جاء من بذل الجهد، وهو بذل الجهد  في إحقاق الحق وإبطال الباطل، ويدخل تحت ذلك جهاد النفس، وبيان الحق بالحكمة والجدال بالتي هي أحسن.
أما القتال فهو رد الاعتداء على كل معتد علينا أو منتهك لحقوقنا، فهو يعتبر جهادا ولكن في حالة مخصوصة وهي رد الاعتداء.
ومن يتأمل آيات القرآن الكريم سيجد هذا الفارق بين المفهومين، فقوله تعالى:  ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان : 52] آية مكية، ولم يكن القتال قد شرع للنبي في مكة، والجهاد الذي ذكرته الآية هو جهاد بالقرآن، أي بإقامة الحجة والبرهان.
وقوله تعالى: ﴿والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت : 69] تحث على جهاد النفس وترويضها، والصبر على المكاره، وكل ذلك يندرج ضمن الجهاد.
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾  [التوبة : 73]، ونحن نعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقاتل المنافقين رغم ما قاموا به من أذية ودسيسة بين المسلمين، ولكنه جاهدهم، ولذا فإن مفهوم الجهاد في هذه الآية ينصرف إلى ما عدا القتال.
ومشكلة أخرى من إشكالات تراثنا هي انتزاع الآية من سياقها لتعطي معنى آخر غير المقصود، وما أكثر ما نجد ذلك في تفاسير القرآن المختلفة، مرة غياب للسياق الموضوعي ومرة غياب للسياق التاريخي وثالثة غياب للسياق الموضعي للآيات، وكل ذلك يعود إلى السبب الرئيسي وهو الدخول على القرآن لإقرار الفهم المذهبي المسبق حول الآيات، وسأذكر هنا نموذجا لفهم بعيد لآية لطالما استخدمها الخطاب الوعظي بغير ما قصدته.
من الآيات التي انتزعت من سياقها وأتوا لها بمعنى بعيد غير المعنى القريب لها:
قوله تعالى: ﴿ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ  ﴾[البقرة : 193].
فقد فسروها بالأمر بقتال المشركين والكافرين كافة  حتى يتراجعوا عن الشرك والكفر ويكون الدين لله فلا يعبد سواه، فإن انتهوا عن الشرك ووحدوا ربهم فلا عدوان عليهم، فجعلوا علة الحرب هي اختلاف الدين بالشرك والكفر بخلاف ما صرحت به الآيات التي سبقتها من علة واضحة، ولو أعدنا قراءة الآية في ضوء ما سبقها من الآيات وما تلتها لاتضح ببساطة المعنى الذي تقوله الآية، تأملوا هذه الآيات:
 يقول تعالى: ﴿وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) ﴾[البقرة :190- 194].
 
تبدأ الآيات ببيان سبب القتال (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ)  فتقرر أن الأمر بالقتال هو ضد من يقاتلنا فقط، أي أن العلة هي القتال لا اختلاف الدين، ثم تأمر الآية بعدم الاعتداء (ولا تعتدوا) في إشارة إلى أننا إن قاتلنا من لم يقاتلنا فإننا معتدون، والله لا يحب المعتدين، ومن الاعتداء قتل النساء والصبيان والشيوخ والمرضى، أو من ألقى إليكم السلم وكف عن حربكم.
ثم تقول الآية التي تلتها (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) فإذا نشب القتال بينكم وبين هؤلاء المعتدين فاقتلوهم أينما أدركتموهم وصادفتموهم ولا يصدنكم عنهم أنكم في أرض الحرم (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي: وأخرجوا هؤلاء المعتدين عليكم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة.
(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي: إن فتنتهم إياكم بالإيذاء والتعذيب والاضطهاد، والإخراج من الوطن، والمصادرة في المال، وإرغامكم بالقوة على تغيير دينكم ومحاربتهم لكم أشد من القتل الذي سيحصل في الحرم جراء القتال الحاصل بينكم وبينهم; لأن فتنتكم عن دينكم ستجعلكم تموتون كفارا أما القتل برغم ما فيه من كراهة وخاصة أنه في الحرم إلا إنه سيجعلكم شهداء، وسيرسخ قيمة حرية التدين والاعتقاد ومنع الاضطهاد لمن بعدكم.
(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) فمن دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا، إلا أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته فلا أمان حينئذ. ولما كان القتل في المسجد الحرام أمرا عظيما يتحرج منه أكد الإذن فيه بشرطه ولم يكتف بما فهم من الغاية فقال: (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) ولا تستسلموا لهم، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آثم، ك(َذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ) الذين اعتدوا عليكم.
(فَإِنِ انْتَهَوْا) عن قتالكم، وتابوا فإن الله غفور رحيم.
ثم تأتي الآية لتوضح غاية القتال (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي قاتلوهم حتى لا يكون هناك اضطهاد في الدين وإرغام على تغيير العقائد بالقوة، ولا يكون هناك إيذاء ولا تعذيب بسبب اختيار الناس لعقيدتهم، قاتلوهم حتى تسود قيمة حرية الاعتقاد وحرية التدين، ومنع الاضطهاد الديني، (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) وحده، فلا يتدخل البشر بإرغام أحد على الدين، فالدين لله وحده هو من سيحاسب كل فرد يوم القيامة على اختياره، وليس من حق أحد أن يكره أحدا على اختيار دين أو مذهب، فلا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ثم ينال الكافر جزاءه من الله وحده.
أما من يكره الناس على تغيير دينهم فإنه لا يجعل الدين لله وإنما يجعله لنفسه لأنه من يعاقب ويحاسب الآخرين وهذا تجاوز لما أراده الله وقرره، إذ لا يكون الحساب على مكره، فلا حساب ولا عقاب في الآخر إلا لمن اختار دينه ومذهبه حرا بلا إكراه ولا اضطهاد ولا تعذيب ولا فتنة، ولو أردت أن أختصر المعنى للآية لقلت: وقاتلوهم حتى لا يكون هناك استبداد واضطهاد وإكراه على تغيير دينكم، وتكون حرية التدين والاعتقاد هي القيمة التي أرادها الله ليختبر عباده في الدنيا ثم يحاسبهم في الآخرة.
 (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن قتالكم فلا تقاتلوهم لأنهم لم يعدوا ظالمين معتدين ، والعدوان لا يكون إلا على الظالمين، أو (فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) منهم وهم الذين لا زالوا معتدين ولم ينتهوا.
من خلال تأمل هذه الآيات رأينا كم هو المعنى بسيطاً حين ربطنا الآيات ببعضها، وفهمنا الآية في ضوء سياقها، ورأينا كيف أن الإسلام يعلي من قيمة الحرية ويحارب لأجلها بعكس ما يريده اليوم بعض متطرفي الأديان والمذاهب من إكراه للناس وتهديد واضطهاد لكل من يختار دينه الذي اقتنع به.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى