الاحتلال الفارسي (3/3)
بلال الطيب
كان المُؤرخ محمد الفرح سباقاً في ذلك، كشف الكثير من المثالب، وأغفل بعضها، وقال مُنصفاً: «التعبيرات التي وصفت ما حدث بأنَّه ردة هي تعبيرات خاطئة، أدت إلى عدم إدراك حقيقة ما حدث، والانسياق وراء بعض الأوهام والتلفيقات»، وهو رغم دقته التبس عليه أمر ولاية معاذ بن جبل، وقال أنَّها كانت عامة لكل اليمن.
عمد كثيرٌ من المُؤرخين على القول بأنَّ قيس بن مكشوح ارتد مَرّتين، وذلك نقلاً عن سيف التميمي، والأخير قصاص مُتعصب للفرس، ومروياته مليئة بالكذب، منها قوله: «وارتد ثانية قيس.. وكان من حديث قيس في ردته الثانية أنَّه حين وقع إليهم الخبر بموت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – انتكث، وعمل في قتل فيروز، وداذوية، وجشيش».
اكتفى المُؤرخون المُتقدمون بنقل أقوال ذلك القصاص، دون إخضاعها للفحص والمُراجعة، ليعمل من أتى بعدهم على تداولها كحقائق دامغة، واتهام كل من شكك بصحتها بأنَّه يعادي الإسلام وأهله، ورداً على هؤلاء، وإنصافاً للتاريخ، سنكشف من خلال هذه التناولة مدى زيف تلك المرويات.
كان المُؤرخ محمد الفرح سباقاً في ذلك، كشف الكثير من المثالب، وأغفل بعضها، وقال مُنصفاً: «التعبيرات التي وصفت ما حدث بأنَّه ردة هي تعبيرات خاطئة، أدت إلى عدم إدراك حقيقة ما حدث، والانسياق وراء بعض الأوهام والتلفيقات»، وهو رغم دقته التبس عليه أمر ولاية معاذ بن جبل، وقال أنَّها كانت عامة لكل اليمن.
«الفرح» لم ينفِ وجود ولاة آخرين غير «معاذ»، إلا أنّهم – حد قوله – كانوا تابعين للأخير، وهذا غير أكيد، والأكيد أنَّ رسول الله «ص» قسَّم اليمن إلى أربعة أقاليم، وجعل ولاتها مُرتبطين بالمدينة، وهو التصرف الذي أقره باقي الخُلفاء، مع تغيير محدود في عدد الأقاليم، ولم تُصبح اليمن ولاية واحدة إلا مع نهاية العهد «الأموي»، وبداية العهد «العباسي» الأول، وهو الوضع الذي لم يستمر طويلاً.
ومن هذا المُنطلق لا علاقة لعزل «معاذ» وتولية «فيروز»؛ لأنَّ الأول عُزل من ولاية الجند، وعُين الآخر على صنعاء «رجب 11هـ / 631م»، وقد بعث أبو بكر الصديق برسالة إلى بعض الأقيال، جاء فيها: «أعينوا الأبناء على من ناوأهم، وحُوطُوهم، واسمعوا من فيروز، وجدوا معه، فإني قد وليته».
نزل خبر تعيين «فيروز» على قيس بن مكشوح كالصاعقة؛ لأسباب عدة، لعل أبرزها أنَّه كان يرى نفسه الأحق بذلك المنصب، كونَّه ابن الأرض، وأبلي بلاءً حسناً في قتل «عبهلة»، وقيل أنَّ ذات الشعور تسلل إلى خاله عمرو بن معدي كرب، وهدد الأخير من مقر إقامته في نجران «الأبناء» بالنفي، وقال:
وما أن داذويه لكم بفخرٍ
ولكن داذويه فضح الذمارا
وفيروز غداً سيصاب فيكم
ويضرب في جموعكم القِفارا
و«داذويه» المذكور في الشعر هو أحد كبراء فارس، وكانت له سلطة روحية على بني قومه، كونه أكبرهم، وكان فيما مضى كاهن معبدهم، وحين عزم «قيس» على ثورته الجذرية ضدهم، بدأ به؛ فما كان من «فيروز» إلا أن ولى هارباً إلى أخواله في خولان، وبدأ من هناك بمراسلة بعض القبائل اليمنية يستحثهم لنصرته.
ويُقال أنَّ «قيس» تظاهر بادئ الأمر بالولاء لـ «فيروز»، وأنَّه قام في ذات الوقت باتصالات سرية مع الأقيال الرافضين لحكم الفُرس، وبعث برسالة إلى ذي الكلاع الحميري خاطبه فيها: «إن الأبناء نزّاع في بلادكم، وثقلاء عليكم، وأن تتركوهم لن يزالوا عليكم، وقد أرى أن أقتل رؤوسهم، وأخرجهم من بلادنا».
صحيح أنَّ الأقيال – كما أفاد المُؤرخ الطبري – لم ينصروا «الأبناء»، ولم يمالئوا «قيس»، وخاطبوا الأخير قائلين: «لسنا مما ها هنا في شيء، أنت صاحبهم، وهم أصحابك»، إلا أنَّ العوام توافدوا إلى مشارف صنعاء لنصرته، وعن ذلك قال ذات المؤرخ: «وطابق على قيس عوام قبائل من كتب أبو بكر إلى رؤسائهم».
أراد «قيس» بحركته السرية التخلص أولاً من رؤوس «الأبناء»، تماماً كما فعل قبل أربعة أشهر مع «عبهلة»، ونجح – كما سبق وأشرنا – في قتل «داذويه»، فيما هرب «فيروز»، و«جشيش»، وآخرون إلى خولان، ودخل الثوار صنعاء، وإكمالاً للمشهد أترككم مع ما قاله: «الطبري»: «وعمد قيس إلى الأبناء ففرقهم ثلاث فرق، أقر من أقام، وأقر عياله، وفرق عيال الذين هربوا إلى فيروز فرقتين، فوجه إحداهما إلى عدن ليحملوا في البحر، وحمل الأخرى في البر، وقال لهم جميعا الحقوا بأرضكم».
وصف «الطبري» و«ابن خلدون» تلك الحركة بالثورة، وأفاد الأخير: «ثار قيس بصنعاء، وجبى ما حولها»، وقال «الشعبي»: «رجلان لو انبغى لأحد أن يسجد لشيء دون الله لا نبغي لأهل اليمن أن يسجدوا لهما، سيف بن ذي يزن في الحبشة، وقيس بن مكشوح في الأبناء»، ومن هذا المُنطلق لم يكن «قيس» مُرتداً؛ بل خارجاً على «أبي بكر»، مُتمرداً على قراره، لاعتبارات تناولنها أنفاً، وتفهمها – كما سيأتي – خليفة المُسلمين الأول.
جاءت ثورة «قيس» بالتزامن مع ردة غالبية القبائل العربية عن الإسلام، وتناول المؤرخون توجه المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء في إطار حديثهم عن الحملات العسكرية التي توجهت لمحاربة المُرتدين، رغم أنَّ الأخير خرج من المدينة وحيداً، وأخذ من مكة مُرافقين له، ووصل إلى صنعاء لغرض الإصلاح لا الحرب، الإصلاح بين المُسلمين أنفسهم، بشقيهم اليمني والفارسي.
تفهم أبو بكر الصديق ثورة اليمنيين، وتجنباً لأي حساسيات قد تظهر مُستقبلاً، عزل «فيروز»، وأرسل أبان بن سعيد بدلاً عنه، وهو أمرٌ لم يعترف به الراوي التميمي، الذي أصر على القول بأن «فيروز» ظل والياً على صنعاء لعدة سنوات، وأنَّ «قيس» أُرسل إلى المدينة مُكبلاً، ووافقه في ذلك كثير من المؤرخين.
سبق للوالي الجديد أن تزوج قبل عامين بكبشة بنت مكشوح، وذلك بعد وافادتها وأخيها إلى المدينة المنورة، وقد نال تعينه رضا اليمنيين، وأثناء تحقيقه في قضية مقتل «داذويه»، سأل – كما أفاد العسقلاني – صهيره: «أقتلت رجلاً مُسلما»، فأنكر «قيس» أن يكون القتيل من المُسلمين، فما كان من «أبان» إلا أن أمره وغريمه «فيروز» بالتوجه إلى المدينة، ومعهما رسالة بما قضى بينهما.
ويبدو – كما أشار الفرح – أنَّ «قيس» كانت عنده أدلة قوية تدين «داذويه»، وبأنَّه كان يتظاهر بالإسلام، فاقتنع «أبان» بذلك، وأقرَّ «أبو بكر» ما كتبه واليه، وأفاد – ذات المُؤرخ – أنَّ «فيروز» ظل في المدينة، وفيها مات، وأنَّ «قيس» عاد إلى صنعاء، وبقي فيها حتى أواخر العام التالي «12هـ»، حتى وصل الصحابي أنس بن مالك يستنفر اليمنيين للجهاد.
كانت لـ «قيس» صولات وجولات في الفتوحات الإسلامية، وكان قائد فرقة ميسرة الفُرسان في معركة «اليرموك»، وأحد القادة الستة الذين قادوا فتح دمشق، وسابع سبعة أمراء وجههم أبو عبيدة بن الجراح لحصار القدس، وكان أيضاً من ضمن من شاركوا بفتح «الرستن، وحلب، وديار بكر، وأرمينية، وصعيد مصر».
وهو كما بدأ حياته بمحاربة الفرس المُحتلين، كان له دور بارز في القضاء على دولتهم، وكان قائد ميسرة الجيش العربي في معركة «القادسية»، وقيل أنَّه من قتل «رستم»، ليستقر أواخر عُمره في مدينة الكوفة، وقيل أنَّه شهد «صفين» مع علي بن أبي طالب، وفيها قُتل «37هـ / 675م».
وهكذا أصبح اليمنيون محل ثقة دولة الخلافة، ودعامة فتوحاتها، أما الفُرس فلم يولِ الخلفاء الأوائل أحد منهم، حتى جاء معاوية بن أبي سفيان وانحرف عن ذلك المسار المُتفهم، وجعل على صنعاء سعيد بن داذوية، ثم الضحاك بن فيروز، ولم يقم اليمنيون بثورة أخرى؛ لأنَّ غالبيتهم كانوا قد استقروا في المناطق التي سبق وفتحوها، ولأن الإسلام جبَّ ما قبله، وهذَّب الطبائع، وصار «الأبناء» جزء من هذا الشعب، حتى جاء دعاة «الإمامة الزيدية» وأحيوا النزعات التسلطية عندهم وحلفائهم، وعادت الصراعات لتُكشر عن أنيابها من جديد.