“دار المخطوطات”: كنوز يمنية على حافة الضياع

ظلّت الدار مغلقةً خلال تردّدنا المستمرّ عليها في الأشهر الماضية، لكنها فتحت أبوابها من جديد منذ مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. خلال زيارة قادتنا لها مؤخّراً، بدا ألّا نية لعقد مؤتمر في وقت قريب، ولا رغبة لدى القائمين عليها في تفسير الأسباب التي أدّت إلى إغلاقها وعرقلة نشاطها.

يمن مونيتور/العربي الجديد

رغم القيمة التاريخية الكبيرة لمحتوياتها، تظلّ “دار المخطوطات” في صنعاء واحدةً من بين ضحايا الإهمال المستمرّ من قبل الحكومات اليمنية المتعاقبة، تتقاسم المعاناة مع العاملين في حفظ ومعالجة وأرشفة مقتنياتها، مع دخول انقطاع مرتّبات الموظّفين في القطاع العام سنته الرابعة، نتيجة الحرب السعودية الإماراتية على البلاد المستمرّة منذ آذار/ مارس 2015، وهو ما أسهم في تردّي وضع الدار وتوقّف حركة الحياة فيها.
في يوليو/ تمّوز الماضي، عثر فريق الترميم والصيانة في “الجامع الكبير” بمدينة صنعاء القديمة على قرابة 12 ألف مخطوطة بداخل قبّة “العوسجة”، التي تضم أربعة أضرحةً لعلماء دين ينتمون إلى القرون الهجرية الأولى. نُقلت المخطوطات لاحقاً إلى الدار التابعة لوزارة الثقافة لإخضاعها لعمليات الفحص والتنظيف والترميم قبل إعادتها إلى وزارة الأوقاف والإرشاد التي تَعتبر تلك المخطوطات خاصّة بها، كون الجامع تابعاً لها.
حاولت “العربي الجديد” الحصول على تفاصيل حول هذه المخطوطات ونتائج فحصها، من خلال التواصل مع وكيل وزارة الثقافة في حكومة الإنقاذ، حمدي الرازحي، باعتباره المسؤول المباشر عن “دار المخطوطات”، غير أنه ظلّ يتحدّث عن قُرب عقد مؤتمر صحافي للكشف عن كلّ المعلومات، وهو ما لم يحدث إلى اليوم.
ظلّت الدار مغلقةً خلال تردّدنا المستمرّ عليها في الأشهر الماضية، لكنها فتحت أبوابها من جديد منذ مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. خلال زيارة قادتنا لها مؤخّراً، بدا ألّا نية لعقد مؤتمر في وقت قريب، ولا رغبة لدى القائمين عليها في تفسير الأسباب التي أدّت إلى إغلاقها وعرقلة نشاطها.
تقول مصادر لـ”العربي الجديد”، طلبت عدم الكشف عن هويتها، إن “إغلاق الدار كان نتيجةً لبعض الاختلالات الإدارية والمالية التي خلّفها قرار أصدرته وزارة المالية التابعة للحوثيّين في أيار/ مايو الماضي، ويقضي بإيقاف ربع الرواتب الخاصّة بالمتعاقدين (وهو مبلغ لا يتجاوز عشرين دولاراً)، رغم أنّ هؤلاء لا يستلمون أجورهم إلّا كل ثلاثة أو أربعة أشهر، بل واستبعادهم من قوائم الموظّفين”.
تضيف مصادرنا: “ثمة نكران واضح في الأمر. لم تعترف الوزارة بالعمّال ككادر وظيفي رغم صمودهم منذ 2013، في ظروف صعبة. هناك قرار من رئاسة الوزراء باعتمادهم كموظّفين رسميّين، لكن دون جدوى، ما دفع بالعمّال الموجودين إلى الدخول في إضراب شامل لمدّة تجاوزت أربعة أشهر، احتجاجاً على سلب حقوقهم، لكنهم عادوا اليوم إلى مزاولة العمل بناءً، على وعود من وكيل وزارة الثقافة لقطاع المخطوطات ومدير الدار حمدي الرازحي”.
تحتوي “دار المخطوطات”، التي يعود إنشاؤها إلى عام 1980، على عشرين ألف مجلّد، من بيننها نحو سبعين ألف عنوان، أبرزها “الأحكام في الحلال والحرام” للإمام الهادي، والذي يتجاوز عمره ألف سنة، و”الأغاني” للأصفهاني ويعود تاريخه إلى تسعمائة سنة، و”نهج البلاغة” للإمام علي وعمره ثمانمائة سنة، إلى جانب العديد من المخطوطات لأشهر علماء الإسلام اليمنيين، كالحسن الهمداني، ونشوان الحميري، ويوسف بن رسول التركماني اليمني، وعبد الرحمن بن الديبع، والحسن بن الجلال، وابن الأمير الصنعاني، والشيخ محمد الشوكاني.
ويعمل في الدار قرابة ثمانين موظّفاً ومتعاقداً، ثلاثون منهم فقط ملتزمون بنظام المناوبات الأسبوعية، بينما “ترك البقية العمل، وبحثوا عن أعمال أخرى يستطيعون من خلالها كسب قوتهم في ظل المجاعة التي خلّفتها حرب التحالف وحصاره على معظم اليمنيّين”، يقول أحد موظّفي الدار المتوقّفين عن العمل لـ “العربي الجديد”.
يضيف المتحدّث: “منحَنا وكيل الوزارة وعوداً كثيرةً، تارة بتثبيتنا وأخرى بتحسين مستحقّاتنا وثالثة بتنفيذ مشاريع في الدار، غير أن شيئاً من ذلك لم يحصل. انتظرنا حتى كدنا نُطرَد من منازل نسكنها بالإيجار، ثم قرّرنا البحث عن فرص جديدة”.
ولا يقف وضع “دار المخطوطات” عند هذا الحد، إذ إنّ أشغال ترميمها شبه متوّقفة، إلّا من بعض المحاولات التقليدية لتنظيف وإصلاح الوثائق والمخطوطات التي يجلبها السكّان. والسبب هو استمرار انقطاع الكهرباء عن الدار ومعظم محافظات اليمن منذ 2015، بعد تفجير بعض أبراج الكهرباء التي تمتد من مأرب إلى صنعاء.
يؤكّد عمّالٌ أن لدى الدار آلات وأجهزةً حديثة تُستخدم للترميم لكنها متوقّفة، مشيرين إلى أنّ الخبراء يقومون بعمل يدوي من خلال استخدام النشاء والماء والسليلوز وتذويبها على النار. يضيف هؤلاء: “ليس لدينا موقد حتى، ونضطر للذهاب إلى غرفة الحراسة لتذويب الصمغ من أجل تلحيم المخطوطات، كما نقوم بتنظيفها يدوياً”.
 
تفتقر “دار المخطوطات” إلى المواد الأساسية للترميم؛ كالجلود والقرطاسية والخيوط، وحتى أدوات النظافة، كما تشهد نقصاً شديداً في أجهزة التصوير والحفظ، إلى جانب توقّف عمل وحدة التوثيق الإلكتروني؛ ما تسبّب في إيقاف استكمال إخراج الفهرس الوطني للمخطوطات، رغم الحاجة الماسّة إلى توفير النسخ الإلكترونية للاستفادة منها في البحوث دون العودة إلى المخطوطات الأصلية، لتفادي تعريضها للتلف.
إلى جانب ذلك، ثمّة نسخ مصوّرة منذ ثلاثين سنة لمخطوطات نادرة في الدار، محفوظة بداخل أشرطة “الميكروفيلم” ذات العمر المحدود، وهي بحاجة إلى إنقاذ ومعالجة طارئة من خلال استنساخها في أقراص تخزين حديثة قبل تلفها.
يساهم الوضع الحالي الذي تعيشه الدار في ضياع جزء من المخطوطات التي يعرضها المواطنون للبيع، وتعجز عن شرائها؛ ما يجعلها عرضة للوصول إلى أيدي متاجرين بالتراث اليمني، أو أشخاص لا يدركون قيمة المخطوطات التاريخية والعلمية والثقافية.
وفيما تستمر معاناة “دار المخطوطات”، بالتزامن مع ما يعانيه العاملون في هذا الصرح التاريخي، تستمر الحرب على اليمن في عامها الخامس مخلّفة آثاراً كارثية على مختلف جوانب الحياة الثقافية في واحدة من أكثر بلدان المنطقة ثراءً بمخزونها الثقافي المادي واللامادي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى