من على مسارح بيروت والقدس والقاهرة والرباط وتونس والجزائر وبغداد والشارقة والدوحة ودبي، مرورا بباريس ولندن وفيينا ومدريد وجنيف وأمستردام، فنيويورك ومكسيكو وبوينس آيرس ومونتريال وسيدني وغيرها من مدن العالم، حفرت اسمها وحضورها بتميز نادر، مكرّسة مسارا حافلا شارفت فيه أغانيها على عتبة الألف أغنية وأغنية.
لتنقية الصباح والبحث عن جوهر صفائه، يحتاج الأمر إلى صوت فيروز. صوتها أشبه برؤية مضاعفة للأشياء. اتفق عليها كل الناطقين بالعربية، وعلى تشعّب مساراتهم. فمن الممكن أن يختلف العرب من المحيط إلى الخليج (وهذا ما يحدث) في كل شيء إلا في صوت فيروز، فقد اجتمعوا على حبه. ومنذ زمن طويل، خرجت من محيطها اللبناني والعربي إلى المحيط الكوني. ولم يختلف العالم حول أنها أحد أشجى الأصوات وأصفاها وأشدّها رسوخا في سجّلات تاريخ الفن.
حل قبل أيام عيد ميلاد أيقونة لا تتكرّر في المشهد الطربي العربي. وعلى الرغم من تباعد المسافات في خرائط وطن عربيّ مزّقته الحروب والنكبات والنعرات الطائفية والتجاذبات الأيديولوجية، شأنها في ذلك شأن “بلد الأرز”، الذي أنجب هذا الاسم اللامع في سماء الفن العربي، والخالد في ذاكرة عشاق الطرب الأصيل، كثيرون أطفأوا معها شمعة الاحتفال بذكرى ميلادها الـ84، وأيديهم على قلوبهم، راجين أن يمد الله في عمرها.
من أول أغانيها، وهي على الأرجح “تركت قلبي”، إلى “عيون” و”يا قمر” و”أين حبيبي”، في بداياتها الأولى في مدارج الفن، إلى “زهرة المدائن” فـ”يا أنا” فـ”راجعون” ثم “رجعت في المساء” و”سألوني الناس” و”بكتب اسمك” فـ”يا عروسة” و”يا طير طيري” و”يا طيّارة” و”نحنا والقمر جيران” و”أنا لحبيبي” فـ”لا تسألوني” و”حبّيتك بالصيف” و”شط إسكندرية” و”أعطني الناي وغنّ” و”يا زهرة المدائن”.. وغيرها كثير مما لا يعدّ ولا يُحصى من الخالدات التي أدّتها باقتدار “زهرةُ” كل المدائن والقرى، والتي انحفرت تلقائيا في وجدان المستمع العربي، مطربةً أسماع الملايين، مبدعةً في مختلف الأنواع، وعازفةً على كل المقامات، وعلى أوتار قلوب العرب وغير العرب من عشاق فنها وصوتها “الملائكي” المتفرّد.
من على مسارح بيروت والقدس والقاهرة والرباط وتونس والجزائر وبغداد والشارقة والدوحة ودبي، مرورا بباريس ولندن وفيينا ومدريد وجنيف وأمستردام، فنيويورك ومكسيكو وبوينس آيرس ومونتريال وسيدني وغيرها من مدن العالم، حفرت اسمها وحضورها بتميز نادر، مكرّسة مسارا حافلا شارفت فيه أغانيها على عتبة الألف أغنية وأغنية.
هي نهاد حدّاد، أو فيروز التي اختير لها هذا اللقب الفني في بداياتها فارتضته وارتضاها، وجعلتْ منه عنوانا لمسيرة طويلة خاطبت فيها الوجدان الإنسانيَ عبر الأسماع الذوّاقة التي سرعان ما تستسلم لرقّة صوتٍ عذب قادم من عوالمَ أسطورية، ليطرب ويسافر بالكيانات، ماحياً كلّ الحدود والتخوم، ليتحد الإنسان في لحظات استماع روحانية يذوب خلالها كل ما يفرّق أو يشرذم البشر ويصنّفهم في قوالبَ نمطية كرّستها السياسات والأيديولوجيات المتصارعة على امتداد أزمنة تنسفها في لحظةٍ هذه السيدة القادمة من بلاد الفن والثقافة التي أنجبت كبار الأدباء والشعراء والملحّنين.
مسار متفرّد يليق بعزيمة سليلة وديع حدّاد وليزا البستاني التي صقلت موهبتها مع أشعار حليم الرومي وألحانه، مع الكبيرَين عاصي (الذي صارت زوجته لاحقا) ومنصور الرحباني، اللذين شكّلا ثلاثيا ذهبياً مع فيروز، ما زالت الأغاني التي أبدعوها تتردّد متجدّدة في كل مكان. غنّت فيروز كذلك أشعار عباقرة القصيدة العربية، من ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وأحمد شوقي وجوزيف حرب، بألحان كبار الموسيقى العربية، ومنهم حليم الرومي والأخوين الرحباني وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب.
سياسيون كثيرون تعاقبوا على حكم بلدان الوطن العربي، عمل معظمهم على التخريب والتدمير والإفقار والتفرقة، أكثر مما سعوا إلى البناء والإصلاح والوحدة، عاصرت منهم فيروز كثيرين وظلت، وسط كلّ الخراب الذي جزّأ هذه الأوطان وشتّت شعوبها، توحّدهم وهي تصدح بالحب والجمال، عبر لغة عربية صافية وبليغة، لهجة وفصحى.
عيد سعيد يا ذاتَ الصوت القادم من هناك، النافذ إلى قلوبنا قبل المسامع، وكل عام وأنت بألف خير وعطاء.
نقلا عن العربي الجديد