تعددت الروايات، واختلفت المُسميات، واختلطت الحقيقة بالأسطورة، والزيف بالحقيقة، ولم يتعرض حدث تاريخي للبتر والتشويه كما تعرضت له ثورات اليمنيين المُتلاحقة ضد الاحتلال الفارسي، وما هذه التناولة إلا مُحاولة لفهم الحكاية من جذورها، لا نجزم أنَّها الأصوب، ولكنها الأقرب للحقيقة.
ثمة أحداث تاريخية تبعث على الفخر، إلا أنَّها وصلت إلينا بفعل المُؤرخين القدماء مُشوهة، ومبتورة، وبدلاً من أن يعمل المؤرخون المُعاصرون على إعادة قراءتها، وتنقيحها، وترتيبها، أنكروا أغلبها، وأوجدوا تاريخاً آخر غير الذي كان، وكما انعكس شتات اليمنيين وتمزقهم على مسار تلك الأحداث، انعكس أيضاً على من أرخوا لها، بعيدهم والقريب.
تعددت الروايات، واختلفت المُسميات، واختلطت الحقيقة بالأسطورة، والزيف بالحقيقة، ولم يتعرض حدث تاريخي للبتر والتشويه كما تعرضت له ثورات اليمنيين المُتلاحقة ضد الاحتلال الفارسي، وما هذه التناولة إلا مُحاولة لفهم الحكاية من جذورها، لا نجزم أنَّها الأصوب، ولكنها الأقرب للحقيقة.
ابتدأ الاحتلال الحبشي الثالث لليمن عام «525م»، ليأتي بعد «72» عاماً الملك الحميري سيف بن ذي يزن ويطردهم بمساعدة الفُرس الذين رَغَّـبهم بالاستحواذ على بلادنا كغَنِيمة، تاركاً لهم حُكم «اليمن الأعلى»، مُكتفياً بحكم «اليمـن الأسفـل» سهل الانقياد، وقيل غير ذلك، وحين تم قتله على يَد ثُلَّة من عساكرٍ له أحباش استبقاهم لخدمته، سيطر المُنقذون الجُدد – والذين كانوا في الأصل جزءً من تلك المؤامرة – بسهولة ويُسر على أجزاء كثيرةٍ من البِلاد.
وكما قيل عن الأحباش بأنَّ أصولهم يمنية، قيل ذلك أيضاً عن الفُرس، وأنَّهم عادوا مع «سيف» لوطنهم الأصلي، وهذا قطعاً غير أكيد، والأكيد أنَّهم فارسيون توارثوا حكم صنعاء لعدة عقود، واحتلوا رغم قلة عددهم مراكزاً اقتصادية مرموقة، الأمر الذي جعلهم شديدو التأثير في الأحداث الآتي ذكرها، أما عن تسميتهم بـ «الأبناء»؛ فتعود إلى أنَّه عندما سئل جالبهم عن هويتهم، قال: «هم أبنائي»، فسموا بذلك، وقيل: لأنَّهم تزوجوا بيمنيات، فتسمى أولادهم وأحفادهم بذلك، والأخير هو الأرجح.
كانت «دولة فارس» بعد مقتل «سيف» في أوج قوتها، دانت لها اليمن، والحيرة، والبحرين، وبعض مناطق الخليج، وهزم جنودها الرومان، ووصلوا إلى تخوم بيت المقدس، وتعزيزاً لقواتهم في صنعاء، والتي لم يتجاوز عددها الألف مُقاتل، أرسل كسرى أبرويز بأكثر من «4,000» فارسي مع عائلاتهم بحراً، ثم براً، فاستقروا في ذات المدينة، واستتب لهم حكم غالبية الأراضي اليمنية بزعامة باذان بن ساسان، ويَجزم بعض المؤرخين أن تسمية «الأبناء» تُطلق على المُحتلين الأوائل لا على هؤلاء.
تبنى «المذحجيون» خيار مُقاومة الغزاة، واجتمعوا لأجل ذلك، فأوعز الفُرس لحلفائهم «الهمدانيين» بمواجهتهم، ومدوهم بالعُدة والعُتاد، وذكر «الرازي» – وهو مُؤرخ من أصول فارسية – أنَّ «باذان» خرج بنفسه لملاقاة الثائرين، وانضم إليه «10,000» مُقاتل من «حاشد، وبكيل»، وذكر أخرون أنَّ تلك الجموع كانت بقيادة الأجدع بن مالك، وأنَّ أساس الصراع خلاف بين «مُراد» و«بني الحارث»، وأنَّ الأخيرين استنجدوا بهمدان، فأنجدتهم.
وتأكيدا لروايته، أفاد «الرازي» أنَّ همدان «كانت تميل ميل الأساورة وتنصرهم»، وهي كما وقفت معهم ضد «سيف» من قبل، عقدت معهم هذه المرة حلفاً مَشئوماً مُناهضاً للثائرين «المذحجيين»، جاء فيه: «هذا كتاب ما أجمعت همدان وفارس في اليمن، بمحضر المرزبان باذان بن ساسان، ومشاهدة الرئيسين عمرو بن الحارث، وعمرو بن يزيد من بكيل وحاشد، وكفالة بعضهم لبعض عمن غاب من الحيين جميعاً.. عهداً تؤكده العهود، وحلفاً يشدده القود، بعقد مُبرم مُحكم، شديد لا يضمحل أمره، ولا يبيد خبره».
تناسى «المذحجيون» ما بينهم من خلافات، واتحدوا لمُواجهة الفرس وأذنابهم، وفي منطقة «الرَّزم» بوادي مذاب في الجوف حدثت أولى المواجهات «رمضان 2هـ / 622م»، كانت هزيمتهم ماحقة، تباهى «الهمدانيون» بانتصارهم ذاك، وقال شاعرهم مالك بن ملاين:
ونحن كفينا الرَّزم همدان أننا
كفاة وقد ضاقت بذاك دروعها
خسر «المذحجيون» في تلك المعركة عدد من كبرائهم، ونجى من الموت قيس بن مكشوح المُرادي، وخاله عمرو بن معد كرب الزُبيدي – نسبة إلى «بني زُبيد» في نجران – وعبهلة بن كعب العنسي، وفروة بن مسيك المُرادي، وقال الأخير في تلك الهزيمة:
فإن نغلب فغلاّبون قدماً
وإن نهزم فغير مهزّمينا
كذاك الدّهر دولته سجالٌ
تكرّ صروفه حينا وحينا
قام «الهمدانيون» في العام التالي بإجلاء «المذحجيين» من الجوف، وصادروا أراضيهم، ووطنوا عشائر من همدان في مناطقهم، وفي ذلك قال الحسن الهمداني: «كانت الجوف من مواطن مذحج، فأجلتهم همدان»، وذكر محمد الفرح أنَّ مقولة عبهلة: «أيها المتوردون أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم، فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه»، قيلت في حق هؤلاء، فيما عبر فروة عن اعتراضه شعراً، وخاطب المُحتلين قائلاً:
دعوا الجوف إلا أن يكون لأمكم
بها عقر في سالف الدهر أو مهر
وحِلوا بيعمونٍ فإن أباكم
بها، وحليفكم المذلة والفقر
بعد خمس سنوات من الاستقرار النسبي، ذاع خبر النبي محمد «ص»، ورسالته الداعية للوحدة، تلقف غالبية أقيال اليمن تلك الدعوة، وتوافدوا مُتفرقين إلى المدينة المنورة، مُعلنين إسلامهم وإسلام من وراءهم، وكان من جُملة الوافدين من مذحج «فروة، وعمرو، ثم قيس»، وقد خاطب الرسول «ص» الأول قائلاً: «يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الرَّزم؟»، فأجاب: «يا رسول الله من ذا يُصيب قومه مثل ما أصاب قومي ولم يسؤه ذلك؟»، فقال رسول الله له: «إنَّ ذلك لا يزيد قومك في الإسلام إلا خيراً».
أما الفُرس «الأبناء» فقد أسلموا – كما أفاد «ابن هشام» – وكبيرهم باذان، وجعل رسول الله «ص» الأخير على صنعاء، وخاطب رُسله: «أنتم منا وإلينا أهل البيت»، وهو أمر نفاه عدد من المؤرخين اليمنيين، والراجح أنَّ الفُرس ظلوا على مَجوسيتهم، وحكم عليهم معاذ بن جبل بدفع الجزية، ولم يسلموا إلا أثناء ثورة مذحج الثانية التالي ذكرها، بدليل قول المُؤرخ الرازي: «لما قُتل الأسود العنسي أسلم الأبناء، وكتبوا بإسلامهم إلى رسول الله».
ومن هذا المنطلق لم تكن ثورة مذحج الثانية ردة على الإسلام، ومحاربة لـ «الأبناء» المُسلمين كما توهم عدد من المؤرخين؛ بل كانت في بداياتها ثورة حقيقية ضد الاحتلال الفارسي، وامتداداً وانتقاماً لموقعة «الرَّزم» السابق ذكرها، قام بها «المذحجيون» – مُسلميهم وغير مُسلميهم – وذلك بعد أن تبادر إلى مسامعهم وفاة الحاكم باذان «ذو القعدة 10هـ»، سارعوا حينها للاحتشاد في منطقة «خب – الجوف»، وفي الشهر التالي كان تحركهم.
كانت لـ «عبهلة» سلطة رُوحية على مذحج تفوق سلطة أقيالها المُتفرقين؛ كونه كاهن القبيلة الذي ظل على دينه، كما كان لانضواء «700» من الفرسان الأشداء تحت لواءه أثره البارز في تقوية مركزه، وقيل أنَّ «4,000» مُقاتل من حمير انظموا لمساندته؛ ولهذه الأسباب كان «القائد الأعلى»، وعنه قال المؤرخ محمد الأكوع: «كان أحد أقيال اليمن المرموق إليهم، والمُتطلعين للمُلك والسلطان».
وما يجدر ذكره أنَّ عدد من الصحابة كانوا دعامة تلك الثورة، كعمرو بن معدي كرب، وقيس بن الحصين، ويزيد بن عبدالمدان، ويزيد بن المحجل، ويزيد بن الأفكل، وثات بن ذي جرة الحميري، واختلف المؤرخون حول مُشاركة فروة بن مسيك، والراجح أنَّه انسحب بأنصاره إلى «الأحسية»، وراسل رسول الله «ص» بأحداثها؛ كونه والي مذحج المعين من قبله.
أما الصحابي قيس بن مكشوح، من أقسم ذات يوم بأنَّه سيأخذ بثأر «الرَّزم» من الفرس، فقد كانت له مهمة القيادة العسكرية، توجه بالجُموع الثائرة صوب صنعاء، وهزم الفرس وحلفائهم شرَّ هزيمة، وقتل في «شعوب» كبيرهم شهر بن باذان، وذكر «الفرح» أنَّه صلى والمسلمين صلاة عيد الأضحى في المشهد، ونُقل عنه قوله:
وفيتُ لقومي واحتشدت لمعشرٍ
أصابوا على الأحياء عمراً ومرثدا
وكنت لدى الأبناء لما لقيتهم
كأصيد يسموا في العزازة أصيدا
وتأكيداً لما سبق، قال الدكتور نزار الحديثي: «اتضح من دراسة الحالة السياسية لليمن قبل الإسلام أنَّ حركة عبهلة لم تكن في البداية موجهة نحو الإسلام، ونحو سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن الجماعات التي تزعمتها كانت تخاصم الساسانيين الفرس، وحلفائهم من همدان».