كتابات خاصة

وصيّة البدويّ

حسن عبدالوارث

لا أجمل من العلاقة بين القلم والأصابع. لا أعذب من ذلك العشق، ذلك الاحتضان، وذلك الوَلَه المشحون بألف قنبلة رغبة متفجرة.

لا أجمل من العلاقة بين القلم والأصابع. لا أعذب من ذلك العشق، ذلك الاحتضان، وذلك الوَلَه المشحون بألف قنبلة رغبة متفجرة.

لا أُجيد الكتابة بأزرار الجهاز الاليكتروني، إلاَّ إذا كان المكتوب عبارات سريعة وسهلة مثل شطيرة مكدونالد. مثلما لا أُحبّ القراءة عبر الشاشة المضيئة بأشعة صناعية مثيرة لآلام العيون وللأرق المجنون.
وينصحني أصدقاء بالافادة والمتعة من كتب تحتشد بها مواقع اليكترونية عديدة، فأحاول، ولا أقوى على تحصيل تلك المتعة والفائدة، مهما حاولت.
أُحبّ تناول طعامي بيدي، لا بالشوكة والسكين. قال لي صديق يوناني عجوز منذ أربعة عقود: ثلاث لا تتناولها إلاَّ بأصابعك المجردة من أدوات المائدة: السمك، الزيتون.. والأنثى. ولا أنام متدثّراً بالبيجاما، أو أتجوّل في المنزل بالروب دو شامبر. ولا أتعطّر إذا أقمتُ صلاة العشق الحميم على لوحٍ من جنة الجحيم، بل أدع العَرَق يتصبّب مدراراً من كل مساماتي حتى آخر قطرة. دون ذلك، لا تصحُّ هذي الصلاة. إنني أنقل قصيدتي من العرش إلى الفَرْش قبل أن يرتدَّ إليَّ حرفي.
أنا بدويٌّ في ديار التقنية الحديثة.. ورجعيٌّ في حضرة السيليكون..
ولذا، أكتب بالقلم لا الأزرار.. وأقرأ بالحدقات لا الرموش.. وأتأبّط الدفتر والكتاب والجريدة في الشارع والحافلة والمقهى.. وأمنح الأطفال بهجتي في حضرة النساء فقط.

راودَتْني النجمةُ البعيده..
راودَتْني عن رحلةٍ إلى منافي الأسلاف ِ، وعن حُلُمٍ في قارورة البحر، وعن وطنٍ في القصيده.
وكنتُ أُوشوشُ أصدافَ الساحل الذهبيّ، لعلَّ شهيداً يُلْقي عليَّ وصيَّتهُ، أو عاشقاً يكشفُ لي سرَّ هذي البلاد العنيده,
لخمسينَ عاماً مضتْ، وعشرين عاماً ستمضي، ظللتُ أُقايضُ عمري بحفنةِ ذكرى ذرَتْها رياحُ الفجيعةِ على شاطىءٍ طوَّقتْهُ خيامُ العقيده.
راودَتْني ولكنَّها ما دَرَتْ يومذا أنَّها تركَتْني أُلملمُ زهرَ الأماني، أُقطِّرُ غيمَ الرجاءِ.. وأرفو جراحَ الجياد الشريده.

” اِنْ عشقت، اِعشقْ قمر “… وانْ سرقت، اسرق عمراً جديداً، تعيشهُ مرةً واحدة -دفعةً واحدة- مع امرأةٍ جديدة، وحرفةٍ جديدة، ولكن.. في الوطن نفسه.
لا أحبّ هواية تبديل الأوطان، وجمع الطوابع والطباع، والسفر إلى بلاد لا تعرف لغة العشق ولا لغة الشعر.
وأرتاب من مديح الباب العالي. ذات يومٍ بعيد، أبدى لي الرئيس اعجابه باحدى كتاباتي المنشورة في صحيفةٍ تعارضه قبل الوجبات وبعد الصلوات. أدركتُ حينها أن تلك الكتابة لا تشبهني قط وأنها بنت حرام.
ذات يومٍ غير بعيد، صرتُ كاتباً موظفاً في حاشية الرئيس. رأيتهُ يطلع لي لسانه كمن يقول لي: تعادلنا.

قال طاغور: عشتُ لأرى..
قال ماركيز: عشتُ لأروي..
وأنا عشتُ لأبكي. أبكي عمراً ذهب سُدى.. ووطناً ذهب سُدى.. ورفاقاً ذهبوا سُدى. وأنا الرجل السُدى الذي ظل يحلم بالشذى وبالندى، فلم ينل غير حزنٍ طويل الأمد والمدى.
الليلة، سأكتبُ وصيَّتي. سأضعها في قارورة عطر فارغة، وأُلقيها في بحر عدن. وسأنتظر لثلاثين جيلاً، حين تأتي فتاة في عمر الزهور والسنابل، كانت تسبح في شاطىءٍ بوهيمي، لتعثر عليها صدفةً، وتفتحها، فتجد روحي قد ذبلت كما يذبل الحلم في بلد القبائل.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى