نعم، عدن هي المدينة التي جذب سحرها وجمالها وموقعها الاستراتيجي المستعمرين وطمعوا بها، وهبها الله موقعاً مثالياً لتلاقي واندماج الحضارات والأعراق والثقافات، وكانت مدينة رائده لها خصوصية عدن، النافذة التي أطلت منها شعوب جنوب الجزيرة العربية المعروفة على العالم، حيث مثلت عدن مركز وصل بالحضارات والقارات، والأديان والثقافات والأعراق، وعدت ممراً حيوياً هاماً للتجارة الدولية حول العالم.
نعم، عدن هي المدينة التي جذب سحرها وجمالها وموقعها الاستراتيجي المستعمرين وطمعوا بها، وهبها الله موقعاً مثالياً لتلاقي واندماج الحضارات والأعراق والثقافات، وكانت مدينة رائده لها خصوصية، تفرض على كل زائر ومقيم وسائح أن يراعي فيها تلك الخصوصية المتمثلة بالتعايش الإنساني بين كل مكوناتها، يندمج مع مجتمعها، ومنها يتعلم المدنية والتطور، والعيش المشترك.
فكان على من يدخل مدينة عدن أن يترك كل عاداته وتقاليده وتعصباته القبلية والمذهبية على ضواحيها، ويدخلها ليصبح أحد سكانها المؤمنين بقوانينها وأنظمتها وسلوك شعبها المتمدن. ينهل منها كل جديد يبني شخصيته المدنية والحضارية، عدن المدينة المتنورة من ارتوى من مائها العذب يعود لها لا محالة محباً عاشقاً ولهاناً للقائها، وينهل من نهرها الحضاري والثقافي والفكري والنضالي والعمالي، العلم والمعرفة ومحبة الآخر والعمل من أجل نهضة الجميع.
لكن، ما الذي حدث لعدن اليوم؟! بعد أن تحررت من الاستعمار وتحررت معها وبدعمها أرض واسعة من جنوب اليمن. كانت تشكل جغرافية معزولة عن العالم، ألا وهي 22 مشيخة وسلطنة عاشت تحت حكم اقطاعي بدائي متخلف وجهل وامية، بعيداً عن مدنية وتحضر عدن المدينة.
ومع فجر تحريرها واستقلالها في العام 1967م، شكلت عدن مع 22سلطنة ومشيخة معاً جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وعاصمتها عدن التي تحملت مهمة وطنية وانسانية لإنقاذ تلك المناطق، فجنّدت أبناءها الشباب المتعلم للتمريض والتدريس في هذه المناطق من صحاري وجبال وبراري وجزر ومناطق متناثرة وبدو رحل وصيادين، كانت مرحلة نضال مهمة لما بعد الاستقلال، استطاعت عدن أن تنتشل تلك المناطق من واقعها المتخلف وجهلها ومرضها، وقدمت في هذه المرحلة من النضال كوكبة من الشهداء، الذين قضوا نحبهم قتلاً من قِبل أعداء الحياة من المرتزقة وأعداء البلد الناشئ، أو توفوا بسبب المرض بالأوبئة ومياه الشرب الملوثة والمعدومة وصعوبة الحياة والتنقل في تلك المناطق، التي كانت بعضها تفتقد لسبل الحياة البشرية والانسانية.
غير أن تلك الصعوبات لم تثنِ شباب المدينة عدن من الاستمرار والتطوع في تعليم وتمريض أبناء تلك المناطق المعروفة بالريف، نهضت تلك المناطق وتفتحت عقولهم بالتعليم، وأزداد شغفهم بالمزيد من المعرفة والاحتكاك بالعالم، وكانت عدن قبلتهم، وبدأت الهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة؛ وكانت تلك هجرة دون ضوابط وقيود تحفظ لمدينة عدن خصوصيتها وتمدنها، بعضهم تمكن من الاندماج بنسيجها المدني وصار جزءاً مهم منه، لكن البعض الآخر دخلها متشبعاً بعصبته وتعصبه الطائفي والمناطقي والعرقي لم يستطع الاندماج في نسيج عدن الاجتماعي، بل صار يشكل له نسيجه الخاص وخصوصيته التي نقلها من الريف، فظهرت حينها تجمعات خاصة ذات حساسية عرقية مناطقية لا تقبل الاندماج، يتزوجون من بعض ويعاشرون بعض ويتعصبون لبعض، وعندما ترسخت العصبية شيئاً فشيئاً تسيدت لتشكل خطر على ثقافة وحضارة عدن وخصوصيتها.
ومع الزمن، وصل أمثال هؤلاء لسلطة ما، أو لمصدر القرار، وبسبب ذلك بدأت عدن تعاني من التمييز، والشعور بالتهميش والاقصاء لكوادرها المؤهلة، ليستأثروا هؤلاء المتعصبون بالوظيفة العامة، والسلطة والقرار، هنا فقدت عدن معيار خصوصيتها من تعايش واندماج، وأمن وأمان، وقد بذل المتعصبون جهدا كبيرا في تعصبهم واهتموا بخصوصيتهم (ومناطقهم، وقبائلهم)، لقد تداول على عدن عددٌ من المحافظين من هولاء، فأصبح كل العاملين في مبنى المحافظة، من أصغر موظف إلى المحافظ من عشيرة أو فخذ واحد. وكانت عدن بالنسبة لهم مجرد أرض للبيع والشراء والاستثمار، وتطورت الحالة للبسط والنهب والاستحواذ، بل ممارسة ظلم وتعسف وقهر لكل ما هو عدني، وسمعنا عبارات مزعجة عن أبناء عدن، فهنالك من وصفهم بمجموعة من الهنود والصومال، وأُطلقت عبارة “عرب 48” على أبناء عدن وهم من أعراق يمنية؛ لقد تسيدوا بجهلهم وقرويتهم على عدن.
اليوم، يتربعون على سلطتها ومصدر قرارها، هم أصحاب الحق في استثمار متنزهاتها وسواحلها دون مناقصة وبأسعار زهيدة، بصفقات فساد تهتز لها الجبال، هم الباسطون على الأرض والناهبون لخيرات وايرادات عدن، هم القادة وحراس القصور والسجون والمعتقلات، هم النظام والقانون، وهم الفاسدون ولكن لا يشعرون.
طمسوا هؤلاء معالم عدن التاريخية والثقافية، وعبثوا بها وبموروثها الشعبي والفلكلوري، اغلقوا أهم سواحلها لينعم قاداتهم بالأمان والاستمتاع، هدوا مساكن ابنائها المتواضعة فوق رؤوسهم ليبنوا فنادقهم وقصورهم، كل ذلك يحدث تحت حماية جيش القرية، وعدن المدنية الحالمة لم تعد كما كانت، بل أصبحت تعاني وتتألم كمداً وقهراً ليس منهم فقط، بل ومن كل من ساندهم وبرر لهم وتعاطى مع أعمالهم واغترّ بشعاراتهم وأنخدع بهم وأعمالهم المشينة من ابنائها، ومن الصمت المعيب للبعض.. والله المستعان.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.