في جلسة مقيل غير اعتيادية التقيت بعدد من العاملين في مرافق حكومية وخاصة، تباهي بعضهم – ممن عادوا إلى أعمالهم – بما كسبته أيديهم، فيما خيمت لحظة انكسار عارمة عند أولئك الذين ما يزالون حبيسو منازلهم، وعند من تعثر حظهم، فكان التلطيف من المُتباهين: «الدنيا مُبشرة بخير، ومُستقبلاً بيكون حظكم أحسن!!».
الرشوة في بلادي هي الفساد الأكثر حضوراً، لا يخلوا مرفق – عام أو خاص – منها، والأسوأ أنَّها أضحت سلوكاً شائعاً يتجدد بابتكارات جديدة، ولا يتحرج من يمارسونه بالتباهي به، يُصبغون عليه مُسمياتهم المُنمقة، والمُموهة، فيما تبقى «حق ابن هادي» التسمية الأكثر تداولاً، وهي – في الأصل – عنوان لحكاية مُلفقة، سنأتي على تفنيدها.
في جلسة مقيل غير اعتيادية التقيت بعدد من العاملين في مرافق حكومية وخاصة، تباهي بعضهم – ممن عادوا إلى أعمالهم – بما كسبته أيديهم، فيما خيمت لحظة انكسار عارمة عند أولئك الذين ما يزالون حبيسو منازلهم، وعند من تعثر حظهم، فكان التلطيف من المُتباهين: «الدنيا مُبشرة بخير، ومُستقبلاً بيكون حظكم أحسن!!».
المُهم، في تلك الساعة السليمانية أطل علينا رجلٌ تبدوا عليه علامات العُجب والتباهي، يحمل في يده اليسرى قات مُغري، وفي اليد الأخرى مشروبات من النوع الغالي، فكان السلام تحية، همساته للحاضرين نزلت عليهم كالصاعقة، وخيم صمت رهيب، واجتمعت ملامح الانبهار والانكسار في آن، صاحبنا يعمل في «…»، ومن خلال منصبه المُستجد، صار يتباهى بسلبه مئات الألاف من الريالات على «…» المُستجدين، وحين استنكر عليه أحد الحاضرين ذلك، كان رده: «الحياة فرص، ولو دامت لمن سبقونا، لما وصلت إلينا!!».
قيم مُنحسرة، وأخلاقيات مُندثرة، وعزة نفس مهدور دمها، وقناعة نائمة، وأخيراً وهو الأهم فقرٌ مُدقع، والجوع – كما قيل – كافر، هذا ما أكدته دراسة يمنية أجريت قبل عدة سنوات عن الرشوة، حين كان لنا شبه دولة، احتل القضاء فيها الترتيب الأول بنسبة «65%»، والأمن بنسبة «59%»، ثم وزارة المالية والمرافق التابعة لها بنسبة «47%»، واليوم وفي عهد اللا دولة من المؤكد أنَّ تلك النسب ارتفعت، وتجاوزت المصالح الحكومية، والقطاع الخاص، وصولاً إلى المُنظمات الحقوقية والإنسانية المُتاجرة بمعاناة اليمنيين.
استطلاع الدراسة اليتيمة أظهر أنَّ تأخير المعاملات التي يلجأ إليها الموظف كوسيلة لطلب الرشوة تأتي في مُقدمة الأسباب والدوافع بنسبة «70%»، يليها طلب صريح أو تلميح من الموظف بنسبة «58%»، أما الأسباب التي اختارها المبحوثين فتتمثل بضعف رواتب الموظفين بنسبة «75%»، وجاء ضعف الوازع الديني في المرتبة الثانية بنسبة «62%»، في حين جاء غياب اللوائح المُنظمة للعمل في المرتبة الأخيرة بنسبة «60%».
وعودة إلى عنوان التناولة، ثمة حكاية شعبية متداولة مفادها أنَّ أفراد من قبيلة «القُحري» التهامية، وأثناء احتجازهم للكرنل هارولد جيكوب في باجل «1919»، كانوا دائماً ما يترددون على الأخير طول فترة احتجازه التي استمرت قرابة الأربعة أشهر، مُطالبين إياه بحق شيخهم «ابن هادي»، نظير تقديمهم له ولمرافقيه بعض الخدمات، حتى استنفذوا الكثير من أمواله.
لم يذكر «جيكوب» في كتابه «ملوك شبه الجزيرة العربية» ذلك؛ بل على العكس أشاد بنزاهة تلك القبيلة، وبمشايخها، وبالشيخ يحيى علي حميدة «أبو هادي»، وليس «ابن هادي» كما تشير الحكاية الشعبية، وقال: «وكانت الحكومة قد عرضت تقديم مبلغ كبير من المال كفدية يبلغ مقدارها خمسين ألفاً من الجنيهات الاسترلينية، وأنا الذي أبلغت المشايخ بأنهم سيصبحون رجالاً أغنياء بعد الآن، ولكنهم غضبوا لذلك، ورفضوا الرد على الرسالة، ونفضوا أيديهم من استلام الرشوة قائلين: نحن لا نريد شيئاً من نقودكم القذرة، وأموالكم المُحرمة»، ليقوموا بعد الإفراج عنه بإعادة ودائعه الثمينة، ومحمولاته النفيسة كاملة غير منقوصة.
كان من المُمكن أن أورد تلك الحكاية الشعبية المُتداولة – والتي ذكرها عبدالله البردوني -كاستدلال لمقالي، إلا أن واجبي المهني حتم علي ذكر الحقيقة؛ مع التذكير بأن تلك الحكاية لم تكن – بالأصل – سوى دعاية إمامية مقيتة لتشوية قبيلة «القُحري» المُناهضة حينها لحكمهم، والتي حالت رغم المُغريات والتهديدات دون وصول «جيكوب» إلى صنعاء؛ وذلك خوفاً من ربط مصيرهم بالإمام يحيى، وبالفعل قام الأخير باحتلال الضالع وبعض المحميات الجنوبية غضباً من الإنجليز الذين لم يقوموا بتأديب تلك القبيلة، فما كان منهم – أي الإنجليز – إلا أن سلموا الحديدة لعدوه اللدود محمد الإدريسي، في حين كانت ذات القبيلة من أبرز أنصار الأخير.
وما هو جدير بالاستدلال: يُقال أنَّ سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان سمي بذات الاسم لأنَّه أول من سنَّ السبي، فهل يا ترى لُقِب حفيده الحارث بن الهمال بـ «الرائش» لأنهَّ أول من سنَّ الرشوة؟ فرضية مهمة بحاجة لبحث ودراسة، وقد يأتي تسجيل القرآن الكريم لقصة حفيدتهما بلقيس بنت الهدهاد، وإرسالها لنبي الله سليمان بهدية قيمة؛ بعد أن خاطبها وقومها بـ «أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ»، ليعزز من صحة تلك الفرضية، خاصة وهناك من المُفسرين من اعتبر تلك الهدية رشوة؛ كونها أرسلت لمصلحة واضحة، اهتدت بلقيس بفطنتها لها، وبسببها عرفت أنَّ سليمان مؤيد من السماء، ذهبت إليه، وأسلمت معه لله رب العالمين.
تبادل النبي الملك سليمان بعد ذلك الهدايا مع الملكة بلقيس، وقد أشارت أسفار التوراة إلى ذلك، ومما جاء في «سفر الملوك»: «وأعطت الملك مئة وعشرين قنطار ذهب وأطياباً كثيرة، وحجارة كريمة، ولم يرد بعد في الكثرة مثل ذلك الطيب الذي وهبته ملكة سبأ للملك سليمان.. وأعطي الملك سليمان ملكة سبأ كل بغيتها التي سألت، فوق ما أعطاها من العطايا حسب كرم الملك سليمان، وانصرفت إلى أرضها هي وعبيدها».
القرآن الكريم كلام الله المُعجز، غاص بدقة في طبائع الأمم، وكما اقترن الجحود والرشوة باليمنيين، اقترن الانقياد والسرقة بالمصريين، والنفاق والأذية في الأعراب، والعناد والخسة بـ «بني إسرائيل»، وكي لا نذهب بعيداً، نعود ونُذكر بأنَّ الفساد في بلادنا ثقافة مُتوارثة، يتمدد أكثر في حال غياب الرادع الديني، والقانوني، والذاتي، ولو تأملنا حال مُغتربينا لوجدنا أنَّهم أكثر التزاماً بقوانين البلدان التي يعملون بها؛ لوجود الضبط والربط؛ وهذا وإن دل فإنما يدل على أن «جيزنا جيز الناس»، نصلح إذا صلحوا وأصل نصلح إذا صلحوا وأصلحوا، ونفسد إذا فسدوا وأفسدوا.
ومن هذا المنطلق فـ «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، ويتحتم علينا وفق هذا التوجيه القرآني أن نحذو حذو «أبو هادي» وصحبه، وليس حذو «ابن هادي» وحكايته المُلفقة، وأن نُدرك أنَّ لعنة الله تشمل الراشي والمُرتشي، وأنَّ عقابه يصب على من أكثروا الفساد، وأن نتمرد على كل ما هو سلبي في ماضينا وحاضرنا، وأن نستشرف المُستقبل بنية صادقة وصافية، وأن لا نرضخ لذلك الشعور الضعيف الذي يرى أن لا فائدة من المُحاولة، وأننا هكذا خُلقنا.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.