تعتبر الفترة التي امتدت من صدر الإسلام وحتى نهاية القرن الثاني الهجري هي الفترة الذهبية للعقل الفقهي الإسلامي، ففيها ظهر الفقه والفقهاء الذين أعملوا عقولهم حول نصوص الوحي فأنتجوا العلوم والمعارف المتعلقة بدراسة النص القرآني تعتبر الفترة التي امتدت من صدر الإسلام وحتى نهاية القرن الثاني الهجري هي الفترة الذهبية للعقل الفقهي الإسلامي، ففيها ظهر الفقه والفقهاء الذين أعملوا عقولهم حول نصوص الوحي فأنتجوا العلوم والمعارف المتعلقة بدراسة النص القرآني، وفيها أيضا ظهرت المدارس والمذاهب المتنوعة في الفقه، وتميزت هذه المرحلة بتنافس فقهي مع الاحترام لرأي الآخر وفقهه، فتعددت المذاهب وتعايشت فيما بينها بسلام، وها هو التاريخ يروي لنا أن في المدينة النبوية وحدها كان يوجد سبعة من الفقهاء قد يختلفون في مسألة واحدة على سبعة أقوال، دون أن تجد إنكاراً من أحدهم على الآخر يصل لحد التفسيق أو اتهامه بالزندقة أو إعلان الحرب عليه كما حدث فيما بعد، ومثل ذلك التنوع المذهبي حصل في الكوفة في تلك المرحلة، كما امتازت هذه الفترة بظهور كثير من المجتهدين في سن مبكرة، باعتبار الاجتهاد مسألة ضرورية يمكن أن يقوم بها الإنسان في أعلى درجة قوته وتحصيله المعرفي، أي فترة شبابه، ومن أمثلة أولئك مالك والشافعي.
إن هذه الفترة هي التي مازلنا نعتاش على أفكارها ومنتجاتها الفقهية إلى يومنا هذا، ففيها ظهر عمالقة الفقه الإسلامي سواء من جيل الصحابة أو جيل التابعين أو جيل تابعي التابعين، فنقرأ في هذه الفترة اجتهادات فكرية لكثير من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى وزيد بن ثابت ومعاذ وعائشة وابن عمر وابن عباس، ونقرأ اجتهادات ومدارس فكرية كذلك للتابعين، ففي المدينة سعيد بن المسيب وعروة وسالم وعطاء والقاسم وعبيدالله بن عبدالله حفيد ابن مسعود والزهري ويحيى بن سعيد وزيد بن أسلم وربيعة الرأي، وفي العراق شريح والشعبي وإبراهيم النخعي وحماد وأبو حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة وزفر وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وفي مكة مسلم بن خالد الزنجي وسفيان بن عيينة وغيرهم، ونقرأ كذلك الاجتهادات الفكرية لأهم المذاهب الإسلامية انتشاراً كمذهب أبي حنيفة وزيد وجعفر ومالك والشافعي والليث والأوزاعي وغيرهم.
تواصل الانتاج الفكري في هذه المرحلة منذ أول عهد الخلفاء وحتى بداية القرن الثالث الهجري، ثم بدأ العقل الفقهي، في تراجعه بأول ضربة للعقل الفقهي تمثلت في اتساع ذاكرته شيئا فشيئا، مع ضيق في مخيلته شيئا فشيئا كذلك، وأقصد باتساع الذاكرة هنا اتساع النصوص التي صارت فيما بعد جزءا من الدين بعد أن كان بعضها اجتهادا تاريخيا وبعضها لم يكن قد وجد بعد، وإنما نسب زورا على لسان النبي وصحابته، فتحول عمل الفقيه بعد هذه المرحلة من الاجتهاد في ضوء النصوص القليلة المحصورة إلى حفظ كم هائل من النصوص، فبينما كان الفقهاء يكتفون بما بين أيديهم من نصوص القرآن وما تواتر من الأخبار عن النبي عليه السلام، لينطلقوا في اجتهادهم، صار جهدهم -فيما بعد منصبا- على جمع الأخبار الخاصة غير المشهورة وغير المعروفة عند عامة المسلمين والتي نسبت للنبي وللصحابة ولمن بعدهم، فتنقلوا في البلدان لجمعها وتدوينها، فكانوا يجدون خبرا عند هذا ولا يجدونه عند ذاك، وكأن نصوص الدين تبعثرت في كل أرجاء الأرض، حتى جاء المحدثون ليجمعوه!! فتحول عمل المسلمين من إعمال العقل في فهم النص والاستنباط منه، إلى جامعي نصوص أخبار آحادية، ولم نعد نسمع لأسماء (فقهاء مجتهدين) بل صار الحديث عن الــ (محدثين)، وقد توسعت النصوص بدرجة كبيرة كلما ابتعدوا عن جيل النبي، حتى صار العقل مثقلا بكم هائل من النصوص التي ألزموا بها كل من أراد الاجتهاد الفقهي، فتوسعت الذاكرة بالجمع والحفظ والتخزين، وضاقت المخيلة التي تنتج الإبداع، حيث اكتفي الناس بما حفظته لهم الذاكرة من إجابات.
وفي مقابل اتساع الأدلة النقلية بعد أن كانت ضيقة نجد أن ما حصل للأدلة العقلية هو العكس، حيث اتجهت من الاتساع إلى الضيق، فبعد أن كان القياس واسعاً مع أبي حنيفة كقياس على قواعد الشريعة وأصولها، وبعد أن كان القياس مرسلاً مع مالك على مقاصد الشريعة وأصولها صار القياس مع الشافعي ضيقاً على جزئيات الشريعة، ثم جاء ابن حزم ونفاه تماما، وهكذا كان حال أهم دليل عقلي وهو القياس، وحين ضاقت الأدلة العقلية كان اتساع الأدلة النقلية مالئاً لفراغها، وهكذا ملأ النقل العقل فتراجع العقل وتراجع الاجتهاد.
————–
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.