عُرِف الفتيح بتواضعه وبساطته وتغنيه بحياة الفلاح (الرعوي)، وحمله لهموم العاملين والبسطاء.
معالم في سيرة الفتيح الذاتية [i]
الشاعر الكبير محمد عبدالباري الفتيح (ت.2013) هو أحد الشعراء اليمنيين المؤسسين لاتحاد الأدباء والكتاب الرواد، الذين أثروا الساحة الأدبية والثقافية بشكل عام، و القصيدة العامية الغنائية بشكل خاص و التي برزت لديه في طراز فيه تجديد وطرافة. ولد الفتيح في العام 1932م في قرية المكيشة من قدس محافظة تعز. درس القرآن في سن مبكرة قبل أن ينتقل إلى مدينة عدن وهو في سن التاسعة من عمره. إلى عدن الساحلية كان والده قد هرب إثر إحدى الثورات الأهلية على عامل الإمام يحيى بن حميد الدين (ت.1948)، وظل والد الفتيح يعمل مؤذنا في جامع “أبان” التاريخي. والتحق محمد بمدرسة النجاح في الزعفران بكريتر. بعد ذلك درس المتوسطة في معهد الثقافة العربية في مدينة الخبر بالسعودية التي قدم إليها في العام1952 . وفي العام 1962م انتقل إلى سوريا، و درس الثانوية في مدرسة المالكي. حصل إثر ذلك على منحة إلى المجر من (مكتب إمامة عُمَان) وهو مكتب أسسه معارضون سياسيون عُمَانيون. ومن جامعة أدفش لوراند بالمجر حصل على الماجستير في اللغة والتاريخ والآداب السامية عام 1969م. وكانت أطروحته دراسة تاريخية وتحليلية للقومية العربية. وفي نفس الوقت كان الفتيح يدرس في قسم علوم الآثار بنفس الجامعة، وكان يتوجب عليه البقاء لإعداد أطروحة ماجستير أخرى في مجال الآثار ومناقشتها هناك. في ذلك الوقت قرر العودة إلى الوطن وكتابة المادة البحثية ثم العودة لمناقشتها. وعاد مرة أخرى إلى المجر، غير أنه غادر دون مناقشة للأطروحة نتيجة للضغوط السياسية.
عمل الشاعر الفتيح موظفا في البنك المركزي منذ العام 1970م حتى 1975م، ثم انتقل إلى الهيئة العامة للآثار بتعز حتى تقاعد في 2002م. غنى للفتيح الفنان عبدالباسط عبسي عددا من الأغاني – هي التصوص التي سأتطرق إليها لاحقا- كما غنى له الفنان جابر علي أحمد والفنان محمد صالح شوقي. صدرت للفتيح مجموعة شعرية بعنوان (مُشَقَر بالسحابة) عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في العام 2003، ولدى الفتيح مجموعة شعرية جاهزة للطباعة بعنوان ( الوصية ونقوش في جوف الصخر). توفي هذا الشاعر المبدع في العام 2013م.
عُرِف الفتيح بتواضعه وبساطته وتغنيه بحياة الفلاح (الرعوي)، وحمله لهموم العاملين والبسطاء، وتقديسه لثقافة العمل، حتى أنه كان مولعا بمهنة “التبليط” التي امتهنها وكان يعود إليها كلما سنحت له الفرصة. و قد عرفناه أيضا بواحدة من أهم مناقبه الإنسانية وهي تشجيعه للكتاب الشباب، وبإخلاصه لقضاياه التي آمن بها، ومنها الأدب. لم ينبهر بالأضواء ولم يسعَ إليها، ولكن عاش للفن و لتكريس قيم إنسانية نبيلة ظهرت في شعره. كتب للثوة والثوار؛ وللمرأة؛ وللحقل؛ وللفلاح. وعُرف كثيرا بقصائده المغناة خاصة تلك التي بصوت الفنان عبدالباسط عبسي. وقد نالت عددٌ من أعماله الشعرية شهرة واسعة في المجتمع ومازالت في قائمة الأغاني المتداولة، لا سيما أنها تتناول ظواهر اجتماعية ذات أهمية، وعلى رأسها قضية المرأة التي بها يقاس تقدم المجتمع أو تخلفه.
الأعمال الفنية لرفيدا أحمد
المرأة بطلة النص الشعري
وفي سياق هذا الاهتمام الاجتماعي تأتي المرأة في شعر الفتيح بوصفها بطلة لبعض القصائد كما في القصيدة المغناة ” واقمري غرد ” حيث نجد صوت المرأة هو المتفرد في النص المغنى. وصور المرأة في ديوانه الشعري ( مُشَقَرْ بالسحابة)، تكشف عن مكانة خاصة للمرأة في كثير من نصوصه، سواء المغناة ذات الطابع الغزلي أو تلك التي تحمل مضامين سياسية واضحة أو مرمزة. وأهم سمات تلك الصورة أن المرأة تتجلى فيها مخاطبة خطاب الند للند أو الشريك للشريك؛ أيْ ما يمكن أن نسميه الكرامة الإنسانية المتساوية. و غالبا ما ترد صورة المرأة مقترنة بسمة من سمات الحياة الزراعية؛ الحول/ الشارح/ الراعية.. الخ.
ويمكن لنا عزو ذلك إلى الموروث الاجتماعي والثقافي الذي ينتمي إليه الفتيح. فهو- أولا- ابن الريف الذي نشأ على ثقافة اجتماعية أكثر انفتاحا وتحررا في نظرتها للمرأة وأقل قيودا اجتماعية ودينية؛ فالمرأة في الفضاء الريفي هي الشريك في الأرض والحياة، وتشكل المرتكز الأساسي في المجتمع اليمني الزراعي. و الفتيح – ثانيا- كان منتميا إلى اليسار السياسي ومنغمسا في تنظيراته الثقافية منذ وقت مبكر، وهو ما عزز نظرته للمرأة كشريك، وجعله متبنيا لقضاياها الاجتماعية. ظل الفتيح مناهضا للتشوهات الدخيلة على عادات المجتمع التي تنال من شخصية المرأة مما حمله على إبراز صوتها في نصوصه. حدث ذلك في ظل ازدياد المد الديني الذي عمل على تبني رؤية قبلية بدوية متشددة وذات صبغة دينية أكثر تشددا تنتقص من المرأة وتعمل على شيطنتها وتقدمها بوصفها عورة يجب أن تحبس خلف الجدران. و ما فتئ هذا المد يجد قبولا لدى المجتمع و ظل طاغيا – لأسباب دينية عاطفية. وقد كان لهذا التيار أثر في انحسار عادات المجتمع الريفي التسووية. و بصورة خاصة كان له تأثيره الكبير على مشاركة المرأة في المجتمع وفعالياته الاجتماعية والزراعية. غير أن شاعرنا ظل ملتزما في شعره لتلك البيئة الاجتماعية الريفية التلقائية التي خبرها في طفولته ولم تكن مشوهة بالأنماط الثقافية المستوردة.
المرأة بوصفها حبيبة
ترد صورة المرأة الحبيبة مقترنة بالغزل وبالتقدير والتقديس، وقد تحمل صفات غنائية ترفع من توهج النص والصورة الشعرية وتوائمها بالمنطوق الشعبي:
” بحسي كل لحظة أنت .. وحلمي في المنام
ودقات الفؤاد باسمك
وفي البال انحفر رسمك
كذا فليعشقوا والَّا على الدنيا السلام”.
وفي هذا المقطع نجد أن الشاعر يخلع على المرأة صفات الوطن، وتكررت هذه الصورة في كثير من مقاطع المجموعة الشعرية، وهذ التلازم ناتج عن وعي تام، واشتغال مقصود من قبل الشاعر، الذي ظل في كثير من نصوص المجموعة الشعرية حريصا على أن يعكس هذا التلازم لتكون المرأة الحبيبة مرادفا للأرض/ الوطن،
وهذا الإجلال تعود جذوره إلى الثقافة المتوارثة للمجتمع الريفي الزراعي الذي يحمله وعي الشاعر. فالمرأة مستقلة الشخصية، وهي مثل تلك الأرض معطاءة. إنها شريكة الرجل وليس منافسا له، بل إنّها من يذلل الصعاب بقوة انغماسها في الحياة الريفية التي تقوم على كتفها. يقول الشاعر في نص استعاري قصير جدا يكوّن بيت شعري واحد:
“جبل صبر عالي حتى على الشمس
والغادية يهمس بأذنها همس”.
الغادية هي السحابة الممطرة لكنها هنا معادل موضوعي للأنثى، الأنثى التي يجعلها تقديس العاشق صاحبة كرامات كما في نص “أهيف” يقول:
أهيف إذا سار سار الكون معه / وإن مال مالت غصون البان معه”
او كما في نص الأرض كالعرض:
” اذا خطر فاح كاذي الغيول وبن الجبالِ/ وإن تبسم تدفق نبع اللحون من خيالي”.
ها هي المرأة الحبيبة تتمخطر في الريف بكل حرية. وكيف يمكن أن تكون حبيبة إلا إذا كانت لديها الحرية، فلا حب دون حرية اختيار. يظهر الشاعر هذه الصورة الخارجية للمرأة مشتبكة مع صورة أخرى هي صورة الأحاسيس الداخلية للرجل المحب.
حبيبي اتمخطر بحسي/ ينتشي بك هاجسي/ برعمت في أعماق نفسي / كزهور النرجس/ بخاطري تصبح وتمسي/ وكيف مثلك ينتسي”.
المرأة بوصفها شريكا
لم تكن المرأة في المجتمع الريفي اليمني الزراعي حبيسة البيت والعمل المنزلي، فمادامت تقف إلى جوار الرجل في تحمل الأعباء الحياتية حينا، فهي تكون أحيانا أخرى السند الذي يستمد منه الرجل قوته، ولذلك نجدها تحضر في النص الشعري للفتيح بوصفها شريكا في النضال؛ فحينا يستمد منها القوة أو يشكو إليها، وحينا يحرضها على الثورة وعدم الصمت، وسنقرأ الصورتين في نصين.
تتجلى الصورة الأولى في نص ” الهجرة إلى الداخل”، وعنوان النص تعبير مجازي لدخول الشاعر السجن سياسيا ” مع زوار الفجر”؛ فنجد الجولبة/ الحمامة ترمز للأثنى الحاضرة في الذهن، فيتوجه إليها بالشكوى والخطاب باعتبارها الشريك في الهموم والوجع
سلِّيني روحي معذبة.. من غير حنان .. مسيبة
وبلا ربيع .. عمري يضيع وأشيب في عز الصبا
أظما فأتجرع دموع .. وشبابي يحرق كالشموع
طير الأمان من قلبي طار .. وبقيت احلم بالرجوع
واجولبة رفِّي عليّ .. نار الفراق تكويني كي
خلي غطف من غير وداع .. فمتى ترجع إلي؟!
كما تتجلى الصورة الأخرى في نص ” حنين “، وهي صورة التحريض الثوري ضد ديكتاتورية النظام السياسي وتغوله، وهنا نجد أن الخطاب موجه للراعية الكحلا التي يمكن تأويلها باعتبارها الأرض والوطن، يقول :
عيني ترى وا رعية وا كحلا
عمايل الجيران في الحول الاعلى
صبية تتجور وصبية فله
عرفه يفوح لا ساحل المكلا
أبو مطر حَبك يا كحلا واخلص
وغازلك وشقرك وعرقص [ii]
ياويل من عابك أو بك تربص
والله العظيم لا فلقه بمفرص
واراعية قولي لشارح الحول
في الوصل قول الفصل والقوة والحول
الفعل شِذهبنا، والرد مش قول
لا تسكتيش خلي السكوت لبو الهول
[i] شقرك وعرقص: شكل باقة من الأزهار لخديها وطلى حاجبيها بالزبد وهو نوع من الطيب ( كما ورد المعنى في المجموعة الشعرية مشقر بالسحابة). والشقر هو نوع من الرياحين.
المرأة وغربة الرجل
لقد ناضل الشاعر محمد عبدالباري الفتيح في سبيل تقويم الاختلالات التي طرأت على عادات المجتمع، فعندما خفت صوت المرأة اجتماعيا نجد صوتها يشغل جو النص، ويحتل مساحة كثيرا من النصوص، وهذا ناتج عن وعي تام بأهمية الدور الاجتماعي الذي يتوجب على الشاعر القيام به للتأثير في المجتمع. هو الأمر الذي جعله يجسد صوت المرأة في نصوصه ويترك لها الحرية في أن تسكن النص وتتخذه منبرا. وفي صدارة هذه النصوص نجد قصيدته المغناة ” واقمري_غرد” بصوت الفنان عبدالباسط عبسي التي نالت نصيبا وافرا من الشهرة في أوساط المجتمع. وهي عبارة عن مناجاة لامرأة غلب عليها إحساس الوحشة والبعد عن الخل/الزوج المغترب / البعيد مع ” القُمري” طائر اليمام تقول كلماتها:
” واقمري غرد ما عليك من هم / خلك معك وانت بجنبه تنعم / مش مثلي أتجرع كؤوس علقم / سقيم بحالي بس ربي يعلم”.
ولأن موضوع الاغتراب في المجتمع اليمني كان ظاهرة اجتماعية كبيرة تتحمل على أثرها المرأة كل التبعات لغياب الرجل، نجده يرصد تلك الأوجاع:
” لين اشتسافر واعندليب/ تذر شبابك ورونقه/ تحيي به كم من فلا جديب / ووكرك الوحشة تسحقه/ يستحلفك غصنك الرطيب/ بشبتك لاتفارقه/ لاتغترب دمعي السكيب / شلعب بخدي وشحرقه”.
الأعمال الفنية لرفيدا أحمد
المرأة والطغيان الاجتماعي
وهو لا يجد حرجا في أن يجعل صورة الرجل الطاغية اجتماعيا حاملة للاعتذار تجاه الأنثى المضطهدة مستخدما اسم ” الدودحية”[iii]
كرمز للأنثى والأرض والوطن. ففي كلماته للأغنية ” راجع” يعلو فيها صوت الرجل معتذرا منكسرا، و” الدودحية” هي فعليا رمز اجتماعي للمرأة المقهورة التي تعرضت للاضطهاد والقتل فيما يعرف اجتماعيا بـ ” جرائم الشرف أو العار” التي يقترفها الرجل تجاه المرأة، لكنه هنا يجعل الرجل يتوجه إليها باعتذاره واعترافه بالخطأ، يقول:
“راجع انا لك وادودحية / راجع معي أغلى هدية/ أباشر الحول والحوية /:واهنأ بعمري لا يضيع عليَّ”
فالتوجه بالخطاب للدودحية هو انتصار للمرأة في المجتمع، الذي حكمت عاداته على كل امرأة مسبقا باعتبارها الخطيئة التي يجب أن يتطهر منها، لذلك نجد في صوت الشاعر صرخة استنهاض للحس الإنساني عند المجتمع الذي تخيم عليه الأمية والجهل، وصار الانتقاص من قدر المرأة وإنسانيتها وحقوقها سائدا فيه، بل إن المجتمع يعتبر ذلك تعاليما دينية. يقول الفتيح في نص الراعية:
” الراعية حتى قلب الصخر يرثي لها/ لا زوجوها ولا خلوا لها حالها”
ولأن المجتمع الريفي اليمني لم يكن يحمل تلك النظرة للمرأة إلا عندما تحولت هويته الثقافية، فإننا نجد الشاعر يسجل هذا التحول في نفس النص:
” تجوَّرت بالقبيلة تحسب الناس ناس/ والناس أشباح من يوم ماغطس ذو نواس / وأقسمت مالها غير شارة الحول”.
وأسطورة غرق ذي نواس في الذاكرة المجتمعية تشير إلى بداية هيمنة الأحباش على اليمن. تقول ” الأسطورة” إن هذا الملك خاض بفرسه بحر مدينة المخا وغرق بعد خسارة جيشه. والاستدعاء الشعري للأسطورة هو استدعاء ثقافي معبر عن التخلي عن الهوية المحلية وبداية سيادة عادات وايديولوجيا غريبة عن المجتمع وثقافته، بل إن الخصوصية التي توارثها عن حضاراته صارت فعلا منكرا يجب التخلص منه في نظر الأفكار الوافدة ذات المنحى الايديولوجي المتشدد.
وهناك نماذج أخرى من قصائده المغناة التي تشير إلى تساوي المرأة والرجل في الحب وحريتهما واستقلاليتهما العاطفية. وقد حققت تلك القصائد حضورا اجتماعيا ولازالت، كأغنية الزفة الشهيرة الموسمة بـ “من الف ليلة”:
” ليلة من ألف ليلة/ والليلة قمري الخميلة / تم اقترانه بعيلة/ فغردي يا قمارى/ وزغردي ياعذارى/ خلي الجبال والصحارى تعيش في ألف ليلية”.
وفيها نجد تصويرا للحياة الاجتماعية في الأفراح حيث المشاركة للرجل والمرأة في زفة العروس، وهي عادات كادت تنقرض في كثير من مناطق المجتمع الريفي الزراعي، يقول:
” وديروا الرؤوس يارجال/ بالدان والبال – بال/ واعطوا الصبا والجمال/بهجة وزفوا الجميلة /.. وبكرة قل للضحى / ما اجمل البارحة/ الراعي والشارحة/ خلوها من ألف ليلة “.
فالاقتران بين القمري والعيلة والراعي والشارحة فيه إشارة إلى رفض طغيان المجتمع وحيفه و إلى تجسيد الكرامة الإنسانية المتساوية بين المرأة والرجل.
نقلا عن مجلة المدنية