لاشك أن التعليم الدراسي في أي مجتمع هو الذي ينظم العقل الجمعي وهو الذي يكون الهوية الوطنية للمجتمع، ولا شك أيضا أن الاشتغال على التعليم الدراسي هو اشتغال على الحاضر والمستقبل لا شك أن التعليم الدراسي في أي مجتمع هو الذي ينظم العقل الجمعي وهو الذي يكون الهوية الوطنية للمجتمع، ولا شك أيضا أن الاشتغال على التعليم الدراسي هو اشتغال على الحاضر والمستقبل، فكم حفر التعليم الدراسي من تصورات في أذهاننا صار من العصوبة زحزحتها أو تجاوزها إلى رؤى جديدة حتى لو امتلكت الرؤية الجديدة كثيرا من المنطق والبرهان!
ولأهمية منهج التعليم الدراسي وما يبنيه في الأجيال التي هي عماد المجتمع كان لا بد أن يأخذ من الوقت والجهد في إعداده وتنقيحه وتنظيمه وتهذيبه مثل ذلك الجهد الذي يأخذه الدستور والقانون إن لم يكن أكثر، ذلك أن المنهج الدراسي هو من زاوية ما الدستور الثقافي للبلد، وما دام كذلك فلابد أن يكون جامعا لفئاته لا مفرقا لها، وأن لا ينفرد بإعداده جهة ما أو مذهب ما ليشكله كما يريد فتكون مخرجاته مخالفة للدستور الذي صاغوه باتفاقهم جميعا وبالتالي ينتج صراعا.
كما أن إعداده لا يقتصر فقط على المختصين في المجال التربوي والعلمي فقط، وإنما هو بحاجة لقانونيين ينظرون في دقة عباراته وجمله وهل تتوافق مع نظر الدستور أم لا، إذ لا يعقل أن يكون المنهج مثلا متبنيا وجهات نظر تخالف ما اتفق الناس عليه في الدستور، كما أن فريق الإعداد بحاجة لاستشارة مجموعة من المفكرين وهذا ما لا نجده للأسف في بلداننا العربية، والحاجة للمفكرين في صياغة المناهج مهمة وذلك لأنهم ينظرون برؤية أوسع لمشكلاتنا الحضارية والثقافية ويضعون الخطوط الرئيسية لمعالم النهوض الحضاري لهذه الأمة ودراسة أهم أسباب تخلفها وتراجعها، وللمفكرين أهمية خاصة كونهم يميلون للأفكار الكلية والفلسفة العامة للعلوم والمعارف، وهذا ما يغيب عن المتخصص الذي يغرق كثيرا في التفاصيل ويرى كل تفصيل مهم ولا بد أن يضمّن في المنهج، ظنا منه أنه يحافظ على العلم، وما يدري أنه وضع الطالب في مقام المتخصص، ونسي أن الطالب يحتاج فقط لأساسيات التفكير والمبادئ لكل علم، حتى يستطيع أن يفهم ثم يبدع ويبتكر.
وأنا هنا سأحاول أن أناقش زاوية واحدة في المنهج الدراسي وهي منهج التربية الإسلامية، لما لها من ارتباط وثيق بالتعايش في مجتمعاتنا العربية..
قمت منذ فترة بدراسة منهج التربية الإسلامية من الصف السادس إلى الصف الثالث ثانوي (اليمن) لأنظر مدى تحقيق هذا المنهج للتعايش في بلد تتنوع فيه المذاهب الإسلامية، بين زيدي شيعي وشافعي سني، ومتصوفة وسلفية ومعتزلة (الزيدية يعتبرون معتزلة في العقائد)، وقد خرجت ببعض الملاحظات على ذلك المنهج، والتي يعود غالبها لمشكلات الخطاب الديني السائد ذاته، كما أني لاحظت أن لاحظت أن المنهج الدراسي ككل ومنهج التربية الإسلامية بشكل خاص كثيف بالتفصيلات التي لا حاجة لها، وهي تفصيلات كثيرة تشتت الطالب عن الأصول إلى الفروع وعن الأسس والأركان إلى الزوايا والهوامش.. تفصيلات في الأساس يدرسها المتخصص في الدراسة الجامعية لا الطالب في مرحلته الأساسية وإلا ماذا تركوا للمتخصص بعد ذلك!
كثير من المسائل التفصيلية التي وجدتها في منهج التربية الإسلامية قابلة للاختلاف وفيها أراء متعددة أقوى مما ذكر في المنهج لكن المنهج لم يذكر إلا رأيا واحدا، والطالب حين يكتشف فيما بعد أن في المسألة خلافا ستحدث له نوعا من التشويش أو يذهب للتعصب ضد كل رأي مخالف، وهذا ما حدث ويحدث إذا سمع الناس برأي لم يدرسوه في مناهجهم في تلك المسألة فيذهبون للهجوم على المخالف واتهامه بالكفر أو الزندقة، إن المكان المناسب في رأيي لتلك الاختلافات هو التخصص الجامعي لا منهج التعليم الأساسي، ويكفي أن يتعلم الطالب في التعليم المدرسي أصول القيم والأخلاق وأركان الشعائر التعبدية وأركان الإيمان بالله، بلغة تربوية جامعة للمتفق عليه.
تبقى هناك مشكلة أخرى في هذا الصعيد وهي وجود مدارس خارج الإطار التعليمي الأساسي للدولة، وهذه المدارس قد تصوغ منهجها على خلاف قيم الدستور المتفق عليها، وهذا يعني إفراز مزيد من المتعصبين مذهبيا أو حزبيا أو مناطقيا، أو أي نوع من أنواع التعصب، ولذا فإن من واجب الدولة إلغاء هذا النوع من المدارس بحيث يبقى جميع أبناء المجتمع تحت منهج جامع واحد، ومن أراد أن يعلم ابنه مذهبه الخاص فليكن ذلك في إطار الأسرة، أو تنظم الدراسة على شكل معاهد بعد الثانوية على أن يكون منهجها خاضعا لرقابة الدولة بحيث لا يخالف القيم العليا التي اتُفق عليها في الدستور.
ومن الأسس والمبادئ التي يحتاجها التعليم الدراسي كي يحقق ما نسعى إليه من تعايش وإبداع الآتي:
1- أن يتبع التعليم أسلوب الحوار، لما في ذلك من تحفيز للعقل وتنشيطه لتقبل المعارف وتوليد الأفكار، وقبول الآخر المختلف والتواصل معه والتعرف على ما هو إيجابي في أفكاره.
2.أن يعوّد الطالب على طرح الأسئلة وتوليدها، وطرح الأفكار الجديدة والمعارضة للسائد والمألوف بشجاعة، وصولاً إلى احترام كل فكرة جديدة، والبعد عن الموقف السلبي إزاءها، بل وضعها موضع الاختبار والتعرف والفحص.
3 .أن يهتم التعليم بتدريس فلسفة العلوم وتاريخها، لأن الفلسفة هي ما يولد النزعة العقلانية والحوارية بين الطلاب وبالتي قبول الآخر ورفض الأحادية، والإيمان بالتنوع. كما أن فلسفة العلم تيسر للطالب الإبداع فيه بالتحليل والتركيب والتقويم والإضافة.
4.أن يؤهل المدرسون تأهيلا واعيا بحيث يدركون فلسفة المنهج وأسسه ومبادئه حتى لا يتجهون بالمنهج إلى التعصب، وأن تسن قوانين وعقوبات لمن يخالف ذلك.
كانت هذه نقاطا عامة في كل المنهج الدراسي أما منهج التربية الإسلامية، فهو بحاجة لمراجعة مجموعة من الأفكار التي لا زالت أحد أسباب الصراعات بين الجماعات الدينية فيما بينها من جهة، وبينها وبين الدولة من جهة أخرى، وفي المقال القادم سأحاول أن أضع أهم ملامح ذلك المنهج الدراسي لهذه المادة بما يحقق التعايش.