“قيس سعيد”.. أستاذ قانون سابق يريد إعادة صياغة السياسة التونسية
بأسلوبه المتفرد في الحديث بلغة عربية فصحى مسترسلة مثل الآلة، وبقليل من المال وكثير من التواضع والخجل، وبلا حزب سياسي يدعمه ولكن بالتزام قوي بشكل ديمقراطي مختلف وغامض.. يقترب أستاذ القانون المتقاعد قيس سعيد بثبات من تحقيق مفاجأة غير مألوفة في العالم العربي.
رويترز
بأسلوبه المتفرد في الحديث بلغة عربية فصحى مسترسلة مثل الآلة، وبقليل من المال وكثير من التواضع والخجل، وبلا حزب سياسي يدعمه ولكن بالتزام قوي بشكل ديمقراطي مختلف وغامض.. يقترب أستاذ القانون المتقاعد قيس سعيد بثبات من تحقيق مفاجأة غير مألوفة في العالم العربي.
فهذا الوافد الجديد نسبيا على الساحة السياسية اقترب من كرسي الرئاسة في تونس مهد انتفاضات الربيع العربي حيث سيواجه منافسه قطب الإعلام في تونس نبيل القروي في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الشهر المقبل.
واكتسح سعيد (61 عاما) في الجولة الأولى من الانتخابات المؤسسة السياسية التي ظلت سيطرتها على المشهد راسخة طويلا في البلاد مثيرا ذهولا كبيرا في أوساط النخب.
ووصف البعض تفوقه على رئيس الوزراء ورئيس البرلمان ووزير الدفاع ورؤساء حكومات سابقين بأنه زلزال انتخابي غير مسبوق في تونس.
يحظى سعيد بدعم إسلاميين ويساريين، وتميز بمواقف اجتماعية محافظة تارة وراديكالية تارة أخرى لم تكن تتناغم في أحيان كثيرة مع توقعات مؤيديه.
وترك سعيد مناصريه ومنتقديه على حد السواء يتلهفون لتحديد هويته.
وقال سعيد في مقابلة مع رويترز في مكتبه ”أنا مستقل وسأبقى كذلك. لا أتبع أي جهة. تونس اليوم تفتح صفحة تاريخية جديدة. أنا لم أقدم وعودا تقليدية ولا برامج تقليدية للناخبين، لقد قدمت لهم أفكارا وتصورات جديدة تترجم في شكل قانوني مطالبهم“.
ويمثل فوز سعيد في الدور الأول إعلانا واضحا برفض الناخبين للقوى السياسية الراسخة التي هيمنت على المشهد السياسي بعد ثورة عام 2011 والتي فشلت في معالجة مصاعب اقتصادية منها ارتفاع معدل البطالة والتضخم.
من بين المتطوعين في حملة سعيد المتواضعة طالب البيولوجيا بسام النفاتي الذي تحدث لرويترز قائلا ”لقد أقنعنا أن التغيير ممكن وفي أيدينا. كنا نحس أن كلامه صادق عكس كل السياسيين الآخرين. خاطب ذكاءنا ولم يسع للتودد مثلما يفعل البقية“.
ويضيف الشاب البالغ من العمر 22 عاما أنه قرر منذ أول اجتماع بسعيد في بن عروس قرب العاصمة الالتحاق كمتطوع بحملته وأصبح يعمل على طباعة الملصقات وتوزيعها وشراء بعض اللوازم البسيطة على نفقته إيمانا منه بهذا المرشح المختلف.
لحظة إعلان النتيجة وعند فوزه في الدور الأول، ظل سعيد متماسكا محافظا على هدوء غريب بينما كان أنصاره يحتفلون. واكتفى ببعض الكلمات المقتضبة قائلا ”ما حصل اليوم ثورة جديدة ونأمل أن نعوض الإحباط بالأمل“.
وعلى الرغم من تصدره استطلاعات الرأي في تونس في الأشهر الأخيرة، فإن عدم امتلاكه قاعدة سياسية كبرى وآلة إعلامية ضخمة جعل اسمه أقل تداولا من منافسه القروي المحتجز منذ أسابيع بشبهة تبييض أموال.
ويقف الرجلان على طرفي النقيض..
فالقروي ثري يملك قناة تلفزيونية، وهو شخصية مثيرة للجدل ورجل اتصال ومؤسس جمعية خيرية تركز على معاناة الفقراء، ويواجه في الوقت نفسه تهما بتبييض الأموال والتهرب الضريبي.
بينما يقول أنصار سعيد إن حملته الانتخابية متواضعة بتمويل ودعاية لا تكاد تذكر، ويتندرون بقول إن تكاليف حملته لا تتجاوز سعر قهوة وعلبة سجائر.
* تقشف
أسلوب قيس سعيد الصارم والمتقشف واضح من أول وهلة تطأ فيها قدماك مقر حملته في نهج ابن خلدون الشعبي بالعاصمة تونس.. نهج اكتظ بمطاعم شعبية وباعة يجرون عرباتهم.
الشقة صغيرة في مبنى قديم في الطابق الثالث دون مصعد وبنوافذ مهشمة وأبواب متهالكة وتلفزيون صغير وبعض الكراسي البلاستيكية البيضاء.
لكن الشقة المتواضعة كانت تنبض حياة، لقد اكتظت بالزائرين من طلبة قدامى جاؤوا للدعم ومدرسين يهنئون ومتطوعين.
سنية الشريطي، طالبة سعيد السابقة، كانت تتحرك هنا وهناك وتقوم بكل شيء.
قالت ”عرفته عن قرب مباشرة في الأيام الأولى التي تلت ثورة 2011 عند اعتصام القصبة آنذاك. لقد كان يصغي إلينا باهتمام. كان من قلة ممن فهموا مطالبنا“.
أستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك، زميل قيس سعيد لسنوات طويلة، تحدث لرويترز محاولا فك ألغاز الرجل الجدي والغامض.
يقول إنه يتذكر جيدا كيف كانا يلتقيان المحتجين مباشرة بالقصبة في يناير كانون الثاني 2011 وكيف كانا يمشيان طويلا حاملين هموم البلاد ومشاكلها باحثين عما يمكن أن يقدماه من أفكار للمحتجين.
يضيف بن مبارك ”كنا نمشي طويلا في ساعات الفجر من القصبة عبر أزقة المدينة العتيقة إلى حدود شارع الحبيب بورقيبة. لقد كنا نتوقف كثيرا للحديث مع المحتجين الذين كان طلبهم الأول رحيل كل الحرس القديم قبل أن ندعم مطالبهم في الدفع إلى دستور جديد للبلاد“.
سعيد كانت لديه القدرة على استمالة الجميع بخطاب جذاب ومميز.
حتى في مقر حملته الانتخابية كان هناك خليط من محجبات ومتحررات وطلبة وعاطلين.
ويبدو أن موافقه الاجتماعية المحافظة من بعض المسائل مثل رفضه المساواة في الميراث أو التسامح مع المثلية الجنسية ومعارضة إلغاء الإعدام قد حظيت بدعم من الإسلاميين.
ولكن على عكس الشائع، فإن مواقفه المحافظة لا تدل على شخصية الرجل الذي ليس له أي نهج متشدد.
يقول بن مبارك الذي عرف سعيد لسنوات طويلة إنه ليس متشددا ولا راديكاليا.
لكن الرجل يحمل عدة تناقضات، فهو يرى أن النقاش حول دور الإسلام في المجتمع نقاش دون فائدة يلهي التونسيين عن مشاكلهم الحقيقية، وهو يرفض المساواة في الميراث، وله في نفس الوقت مواقف محافظة رغم أنه محاط بأصدقاء من أقصى اليسار وبزوجة غير محجبة تعمل قاضية.
ويتحدث بن مبارك عن سعيد قائلا ”مواقفه في مواضيع هامة ظلت غامضة… لأنه كان يتعمد تلك الضبابية للحفاظ على قاعدة شعبية واسعة في أوساط المحافظين عندما بدأ يتحسس حلمه السياسي“.
* لحظة التحول من أكاديمي لسياسي
بعد عام من الثورة أصبح سعيد وجها مألوفا يُدعى للتلفزيون الرسمي في تونس لتحليل الوضع السياسي والقانوني في البلاد أثناء الأزمات.
واكتسب مزيدا من الشهرة بعد أن ظل يتنقل ويشارك في العديد من الملتقيات والندوات عن الدستور والقوانين.
كانت لديه قناعة واحدة وفكرة واحدة لا تتغير وهي أن النظام السياسي خاطئ ويتعين مراجعته عبر الاقتراع على الأفراد بدل القوائم.
كان يريد أن تبنى الديمقراطية من القاعدة التي لها الحق في سحب ثقتها من النواب مما يعني تغييبا لدور شبه كلي للأحزاب.
فكرة حاول سعيد الإقناع بها قبل انتخاب أول برلمان بعد ثورة 2011 وصياغة الدستور، ولكنها قوبلت بصد واسع. كان يتحرك شمالا وجنوبا ويزور كل شبر من البلاد ولا يفوت أي فرصة للترويج لفكرته الرئيسية في شكل أطروحات أكاديمية.
الفكرة تلتقي مع شعار (الشعب يريد) الذي رفعه التونسيون في أثناء الثورة، وهو أيضا شعار يضعه سعيد في لافتة خلف مكتبه البسيط.
خلال إحدى حلقات النقاش التقى سعيد برضا المكي المعروف باسم ”رضا لينين“، وهو يساري راديكالي.
لقاء أظهر توافق الرجلين حول نفس الفكرة وهي أن تبنى الديمقراطية من القاعدة أي انطلاقا من الحكم المحلي والاقتراع الضيق على الأفراد وتلغي تقريبا دور الأحزاب بشكل أو بآخر.
يصف بن مبارك اللقاء بأنه مثل نقطة تحول محورية في مسيرة سعيد في 2013 ليتحول من أكاديمي ينشر أفكاره إلى سياسي أقنعه رضا لينين باقتحام مشروع سياسي.
ويبدو أن حلم سعيد بكرسي الرئاسة في قصر قرطاج قد بدأ بالفعل آنذاك.
* ”الدستور أكله الحمار“
سعيد كان ضمن لجان الخبراء الذين ساهموا في صياغة دستور 2014، وهو دستور حداثي يضمن حقوق الأقليات، وكان يُدعى باستمرار للحديث عن مشروع الدستور والفصول المثيرة للجدل.
وحينما سألته صحفية في التلفزيون ذات يوم كيف يرى الدستور مع الاقتراب من صيغته النهائية أجاب بجملة لا ينساها أغلب التونسيين ”الدستور أكله الحمار“.
كلمات ظلت تثير ضحك وتندر التونسيين لسنوات ولم يفهم الكثيرون معناها.
لكن الملاحظة أكدت على ازدرائه لسياسات الأحزاب وبرلمان منتخب بشكل مباشر، وهو أمر يريد من تونس أن تتخلى عنه بالكامل لصالح ”ديمقراطية الأفراد“.
يقول بن مبارك إن سعيد لم يكن مقتنعا منذ البداية بأن الأحزاب هي من ينبغي أن يكتب الدستور. كان غاضبا لأنه يعتقد أن الأجدى انتخاب أفراد لا قوائم وأحزاب لصياغة الدستور.
قال قيس سعيد إن الفكرة لاقت رواجا لدى الشبان، ولكن البعض يشكك في إمكانية تحقيقها في تونس في السنوات المقبلة.ويؤكد سعيد أنه لا يحمل برنامجا تقليديا ويري أن مقولة ”السلطة يجب أن تعود للشعب مباشرة“ يتعين أن تتجسد عمليا عبر سن قوانين جديدة.
وهو يعتقد أن مقترحه سيعزز الحكم المحلي ويعطي فرصة للناخبين المحليين لإدارة شؤونهم ويمكنهم من سحب الثقة ممن انتخبوه. لكن منتقديه يرون أن هذا النظام يحد من التمثيل البرلماني وأنه غير واقعي وغير قابل للتحقيق.
وتهدف فكرة تعزيز الحكم المحلي لتقليص الهوة بين مراكز القرار والمال في العاصمة والمناطق الساحلية مع تزايد الشعور بالإحباط في مناطق داخلية تنتج أحيانا ثرواتها ولا تنتفع بأي استثمارات ولا تنمية.
ويلقى برنامج أستاذ القانون السابق رواجا وجاذبية قوية لدى كثير من الناخبين الشبان، وهم من أكثر الفئات العمرية التي صوتت له في الجولة الأولى.
تقول إحدى مؤيدات سعيد ”لقد طالبنا بكرامة وتنمية المناطق المهمشة… كان اقتراحه تعزيز اللامركزية في الحكم، ونظام التصويت هو الخطوة الأولى في إعطاء المزيد من الكرامة والتنمية لتلك المناطق“.
ولا توجد لسعيد فرصة حقيقية لتطبيق هذا النظام حيث يحتاج تغيير الدستور إلى أغلبية الثلثين في البرلمان. وهو مستقل لا يدعمه حزب كبير.
لكن سعيد قال لرويترز إن التغيير ممكن ويتعين أن يبدأ بتعزيز الحكم المحلي، مشددا على أن برنامجه الدبلوماسي سيكون تواصلا للانفتاح على الغرب وجيران تونس.