لم تتجاوز الرواية (الحب) كقصة وقضية عاشها بطل الرواية في علاقته بـ(قمر) في وطنه اليمن و(نبراس) في الحبشة، ولعل الكاتب أراد أن يقول بإمكان قلب المرء أن ينتمي لوطنين، وإن بقي الانتماء إشكالاً لم توله الرواية اهتماماً، بقدر ما اهتمت بثنائية الحرب والهجرة وبينهما الحب.
صدرت، مؤخراً، للروائي اليمني سمير عبد الفتاح (1971)، رواية «نبراس قمر» في طبعتين: الأولى عن دار راشد في الفجيرة، كون الرواية ترشحت ضمن القائمة القصيرة لجائزة راشد بن حمد لهذا العام، والثانية في طبعة محلية عن دار السمو للطباعة في صنعاء.
ناقشت الرواية في أكثر من مئتي صفحة إشكالية الوطن كمنبت ومهجر، وما بينهما من تفاصيل، عززت من رؤية الكاتب في مناقشة واقع معاناة الإنسان اليمني (ما بين سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي) في علاقته بالأرض التي أُسقط فيها، وكذا التي هاجر إليها من جهة، ومن جهة أخرى ما يمكن أن تمثله الحرب الأهلية كهوة تلتهم زهور الحياة وتسيء لعلاقة الإنسان بالوطن.
لم تتجاوز الرواية (الحب) كقصة وقضية عاشها بطل الرواية في علاقته بـ(قمر) في وطنه اليمن و(نبراس) في الحبشة، ولعل الكاتب أراد أن يقول بإمكان قلب المرء أن ينتمي لوطنين، وإن بقي الانتماء إشكالاً لم توله الرواية اهتماماً، بقدر ما اهتمت بثنائية الحرب والهجرة وبينهما الحب.
الهجرة
دارت أحداث الرواية حول معاناة الهجرة ومآسي الحرب الأهلية، منطلقة من بيئة يمنية ريفية فقيرة، يهجرها أبناؤها بحثاً عن حياة أخرى في بلد آخر؛ فكانت الحبشة، حينها من أكثر البلدان التي كان اليمنيون يولون وجهتها ويختارونها مهجراً للاغتراب، فتكون أحياناً مستقرًا لبعضهم ممن لا يعود لأسرته في بلده، لكن، في هذه الرواية، أصرت (قمر)، وهي من فتيات إحدى قُرى محافظة تعز جنوب غرب البلاد، ألا تتزوج إلا بعد أن يعود والدها من الحبشة، أو تعرف مصيره… فقررت عائلتها إرسال مَن يبحث عنه ويأتي به أو بخبره، واختير لهذه المَهمة أحد الشباب (بطل الرواية) الذي غادر قريته، وسافر لأول مرة خارج بلاده، نحو الحبشة باحثاً عن والد قمر التي أحبها. وهناك خلال مشوار بحثه (الذي امتد لثماني سنوات خلال ثمانينيات القرن الماضي)، تنقل بين عددٍ من المُدن والقرى في بلد (كانت إثيوبيا وإرتيريا، حينها، بلداً واحداً) يتعرف عليه لأول مرة، وصولاً إلى منطقة (جُندر)، حيث قرية فتاة تُدعى (نبراس) التي كانت أول أدلته في مشوار البحث، وهناك تماهى بالحياة في ذلك البلد الجميل، لدرجة جذبته الحرب الأهلية مصطفاً مع ما يُعرف (بالثوار) المتمردين على الحكومة، وخلال تنقله مع رفاق الحرب كان يواصل مَهمة البحث عن المهاجر اليمني المفقود؛ وإن كان هو لم يكن يعرف نهاية محددة لبحثه، أو حتى هدفاً واضحاً للحرب التي يشارك فيها؛ وهي إشكالية يعاني منها الأفراد في المجتمعات المتخلفة في علاقتهم بالحياة والحرب.
دارت أحداث الرواية حول معاناة الهجرة ومآسي الحرب الأهلية، منطلقة من بيئة يمنية ريفية فقيرة، يهجرها أبناؤها بحثاً عن حياة أخرى في بلد آخر؛ فكانت الحبشة، حينها من أكثر البلدان التي كان اليمنيون يولون وجهتها ويختارونها مهجراً للاغتراب
حاولت الرواية، خلال اشتغالها على الحرب، تفكيك إشكالية علاقة الحرب بالوطن، من خلال تقديم قراءة واعية لواقع الحرب الأهلية، وكيف تبدأ وكيف تستمر وإلى أين تنتهي، كل ذلك اشتغل عليه الكاتب في سياق هندسة سردية متقنة ومتميزة بلغة رشيقة.
يتضح من اسم الرواية «نبراس قمر» ما ظل الكاتب يحرص عليه في سياق الخطاب السردي؛ وهو القول إن ثمة ما هو مشترك كبير بين البلدين؛ فجاء اسم الرواية جامعاً بين اسمي الفتاتين في البلدين واللتين تشاركتا قلب بطل الرواية.
بقدر ما قارنت الرواية بين طبيعة البلدين شملت المقارنة في وجهها الآخر الحرب الأهلية في كل منهما… وإن كانت الحروب كلها هي نفسها في مقدماتها وآلياتها ونتائجها في كل العالم… لكن ما يميز الرواية أنها غاصت عميقاً في العالم الداخلي للحرب، وكيف تتم استمالة الشباب وصغار السن، «فهم وقود الحرب، فيما الكبار أكثر ميلاً للهدوء والسلام، قانعين بحياتهم الحالية، ولا تهمهم الشعارات التي يرفعها الجانبان، خصوصاً أن تلك الشعارات متماثلة وتنطلق من مدرسة واحدة»، وفي السياق اشتغل الكاتب على جزئيات كثيرة من مفاعيل الحرب ووقائعها وحقائقها التي تتكرر في كل الحروب.
بُنية السرد
التزم الكاتب، في البِنية السردية للرواية النظام الدائري؛ فبدأت الرواية بمشهد جلوس البطل في أحد المقاهي الحبشية، عقب مغادرته المعسكر للاستراحة في ذلك المقهى الذي اعتاد الذهاب إليه صديقه (سالس) القتيل قنصاً… حينئذ كان بطل الرواية، قد بدأ بالتفكير بترك الحرب والتوقف عن البحث والعودة، لكن خلال جلوسه هناك شاهد شخصاً يشبه في ملامحه مَن يبحث عنه منذ سنوات؛ وعندما سأل عنه قالوا إنه رجل فقد ذاكرته منذ سنوات ولا يعرفون من أين أتى… وهو المشهد الذي استهلت به الرواية فصلها الأول واستكمله الراوي في الفصل الأخير من الرواية.
الحرب… الخيار الأسوأ
إلى ذلك يلتزم الكاتب، مساراً معيناً في خطابه السردي؛ فيأتي السرد، كما في هذه الرواية، مفعماً برؤية فكرية فلسفية؛ وهي رؤية على عمقها لا تنال من متعة السرد أو تغلق أبواب فهم مقاصده… وإن كان ذلك العمق الفكري الذي تتحسسه القراءة يخفف من بريق درامية تصاعد الحدث، إلا أن جذوة الحدث تبقى مشعة جاذبة للقارئ، الذي يحرص على الاستمرار حتى الانتهاء من القراءة. يقول الكاتب بلسان بطل الرواية: «المشكلة في هذه الحرب اعتقادنا أن ما نفعله يجعلنا حقيقيين، لكننا نكتشف بعد سنوات أن ما فعلناه جعلنا أسوأ. لذا بدأتُ أوقن أنه لا توجد حقائق مع الحرب، الحرب بحد ذاتها هي الحقيقة الإنسانية الوحيدة، وما عداها مجرد رتوشات تسمى الحياة. مع هذه هي حقيقة سيئة ويجب أن نبتعد عنها. صحيح أنه لا يوجد مكان آمن في هذه الحياة، ولا نستطيع التوقف عن القلق أو الخوف، لكن الحرب هي الخيار الأسوأ من كل الخيارات المتاحة لنا».
يُعد سمير عبدالفتاح من أبرز كُتاب الرواية والمسرح اليمنيين الشباب، وصدر له، قبل هذه الرواية، خمس روايات وثلاث مجاميع قصصية وخمس مسرحيات.
نقلا عن القدس العربي