فقد سئل الأستاذ الشيخ عبدالله المشد في ذلك فقال إن بعض الباحثين يراها حراماً وبعضهم يراها حلالاً طيباً، فسئل: وماذا يفعل الجمهور في ذلك الخلاف ؟ فإجاب: للمسلم أن يختار أي الاتجاهين دون حرج، وتلك إجابة حصيفة، رحم الله هذا العالم الجليل.
في نهاية هذه السلسلة أستعرض أقوال بعض الفقهاء المعاصرين الذين أجازوا معاملة البنوك ولم يروا أنها ربوية، بل حاجة وضرورة، أو على الأقل مسألة فيها خلاف بين فريقين، وكون المسألة تنتقل إلى مربع الخلاف فهذا يعني أنها في دائرة السعة للناس فيما يختارون.
فقد سئل الأستاذ الشيخ عبدالله المشد في ذلك فقال إن بعض الباحثين يراها حراماً وبعضهم يراها حلالاً طيباً، فسئل: وماذا يفعل الجمهور في ذلك الخلاف ؟ فإجاب: للمسلم أن يختار أي الاتجاهين دون حرج، وتلك إجابة حصيفة، رحم الله هذا العالم الجليل.
في سنة 1903م ألفت الحكومة المصرية لجنة من علماء الأزهر؛ لدراسة موقف الشرع من حوافز أو مكافأة التوفير في صندوق توفير البريد، وصدر نتيجة لهذه الدراسة، نظام خاص لهذا النمط الجديد من أنماط الادخار والاستثمار.
وبعرضه علي الإمام الشيخ محمد عبده بصفته وقتئذ مفتي الديار المصرية، وافق عليه مؤكدًا قوله: إن الحكمة في تحريم الربا ألا يستغل الغني حاجة أخيه الفقير، بخلاف المعاملة التي ينتفع ويحرم فيها الآخذ والمعطي، والتي لولاها لفاتتهما المنفعة معا، فإنها لا تدخل في معني الربا المحرم شرعًا.
ويقول الإمام محمد عبده: لا يدخل في الربا من يعطي آخر مالاً ليعمل به على أن يكون له حظ معين مناسب من الربح، فهذا ليس من الربا، وهذه منفعة للعامل ولصاحب المال، فلا يمكن أن يكون الحكم فيها هو نفس الحكم في حالة الاستغلال والقسوة التي تخرب البيوت ولا يوجد عاقل يرى أن النافع يقاس على الضار.
ويرى الأستاذ عبدالوهاب خلاف: إن هذا تعامل صحيح فيه نفع لريح المال الذي لا خبرة له يستثمر بها ماله بنفسه، وفيه نفع للتاجر الماهر، أو الصانع الناجح الذي يسعى للحصول على رأس مال يستغل مهارته فيه، فهو تعامل نافع للجانبين، وليس فيه ظلم لأحد، ولا لأحد من الناس مادام الربح مقبولا، فالله سبحانه لا يحرم على الناس ما فيه مصلحتهم ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار).
وفي هذا السياق سار الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر الأسبق، مؤكدًا شرعية فوائد “دفاتر توفير البريد”.
وقد سئل الشيخ شلتوت عن الربح المحدد في صناديق التوفير فأجاب: الذي نراه تطبيقاً للأحكام الشرعية أنه حلال ولا حرمة فيه، ذلك أن المال المودع لم يكن ديناً لصاحبه على صندوق التوفير، ولم يقترضه صندوق التوفير منه، وإنما تقدم به صاحبه إلى مصلحة البريد من تلقاء نفسه طائعاً مختاراً ملتمساً أن يقبل منه المال، وهو يعرف أن المصلحة تستغل الأموال المودعة بها، ويندر فيها أو ينعدم الكساد أو الخسران.
ويقول الأستاذ عبدالكريم الخطيب: إن هذه العملية قائمة على تراض بين الطرفين، وعلى مصلحة محققة لكليهما، وإذا حصلت خسارة في حالة، فإن المكسب يحصل في حالات كثيرة، وإن المشروعات الحكومية تقوم عادة على دراسات دقيقة مضبوطة، وعلى تنبؤات ذوي الخبرة، وهنا يقل جداً أن تجئ النتائج على خلاف ما قدروه.
ويقول الشيخ عبدالرحمن عيسى: إذا كان الشخص مقرضاً ومثله المودع فإن أقرض الحكومة أو أودع إحدى مصالحها كان ذلك جائزاً وكان له أن يأخذ ما تعطيه من فائدة باعتبارها جزءاً من ربح مضاربة وقرض لأن الحكومة تستغل هذا المال في وجوه مباحة شرعاً.
ويقول الشيخ على الخفيف: إن المعاملة مع صندوق التوفير ليست ربوية، فصندوق التوفير يختلف مع القرض اختلافاً واضحاً، لأن المودع يمكنه أن يسترد أمواله في أي وقت يشاء، وهو بذلك يخالف المرابي الذي لا يستطيع أن يسترد الأموال من المقترض، إلا حسب ظروف المتعاقد بينهما.
وفي مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية الذي عقد بالقاهرة سنة 1972م قدم فضيلته الأستاذ الشيخ يس سويلم دراسة تدعمها الأدلة القوية على أن شهادات الاستثمار ليست ربا، وبالتالي فربحها حلال، والفقيهان الكبيران على الخفيف و يس سويلم كانا – رحمهما الله – من كبار أعضاء مجمع البحوث الإسلامية ومن أعمقهم بحثاً ودراسة.
وكذلك قال بهذا الرأي فضيلة الدكتور عبدالمنعم النمر عضو مجمع البحوث الإسلامية، ونشر بذلك عدة مقالات بالأهرام وتحدث عن ذلك في كتابه “الاجتهاد”.
وقد عقدت لجنة البحوث الفقهية بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر عدة اجتماعات في أبريل ومايو سنة 1976 وقررت أن رأي أغلب ممثلي المذاهب الاربعة في هذه اللجنة أن شهادات البنك الأهلي بأنواعها الثلاثة هي معاملة حديثة ليس من السهل إدخالها في عقد من العقود المسماة (قرضاً) أو وديعة أو مضاربة لأنها ليس كذلك وأنه طالما تبين بالاستقرار العلمي وطول الممارسة نفعها للأفراد و المجتمع فإن الأرباح التي يحددها البنك مقدما بتوجيه من الدولة ليست من قبيل الربا ولذلك لانتفاء جانب الاستغلال وانتفاء احتمال الخسارة. بينما رأى البعض أن شهادات الاستثمار المذكورة من قبيل المضاربة الشرعية لأن صاحب المال يدفعه إلى ادارة البنك ويوكلها في التعامل على أن يكون له جزء من الربح وللبنك جزء آخر، والمشروع مضمون الربح لأنه مبني على أصول سليمة وموازنة دقيقة معروفة لدى القائمين على الأعمال المصرفية، وأن اشتراط نسبة مئوية معينة لصاحب المال لا يغير المضاربة لأنه من الربح المحقق وما نسبته إلى رأس المال إلا لمعرفة ما يخصه من الربح العام للأموال المستثمرة ولدفع النزاع بين رب المال و المضارب. ولا يوجد نص صريح يحرم هذا التعامل فيبقى على الإباحة والشرعية.
وقال الدكتور محمد سلام مدكور ما خلاصته: إن التعامل في شهادات الاستثمار بأنواعها الثلاثة معاملة حديثة، ولا تخضع لأي نوع من العقود المسماة، وهي معاملة نافعة للأفراد والمجتمع ، وليس فيها استغلال من أحد طرفي التعامل للآخر، والأرباح التي يمنحها البنك ليست من قبيل الربا، لانتفاء جانب الاستغلال، وانتفاء احتمال الخسارة( ).
وفي التسعينيات من القرن الماضي، أفتى الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي، وقت أن كان مفتيا لجمهورية مصر، بشرعية عوائد شهادات استثمار البنك الأهلي المصري، حيث إنها تمثل مدخرات المجتمع، وهي بنص قانونها لا تستثمر إلا في التنمية الاقتصادية للوطن، وبعائد مضمون من الدولة، ففيها النفع الكبير لكل من الدولة وصغار المدخرين.
وفي 28 نوفمبر سنة 2002م أصدر مجمع البحوث الإسلامية فتواه بشأن شرعية العوائد التي تؤديها البنوك إلى الأفراد الذين يقدمون أموالهم ومدخراتهم لاستخدامها واستثمارها لحسابهم في معاملات مشروعة، وقد جاء بها أن الذين يقومون بتقديم أموالهم ومدخراتهم إلى البنك ليكون وكيلا عنهم في استثمارها في معاملاته المشروعة، مقابل ربح يصرف لهم ويحدد مقدما في مدد يتفق مع المتعاملين معه عليها، فإن هذه المعاملة بتلك الصورة حلال ولا شبهة فيها، حيث لم يرد نص في كتاب الله أو السنة النبوية يمنع هذه المعاملة، والتي يتم فيها تحديد الربح أو العائد مقدما، مادام الطرفان يرتضيان ذلك، وتعود عليهما بالنفع.
وفي عام 2003م تحدث طنطاوي عن فوائد البنوك قائلا إن “مسألة تعهد البنك أمام العميل بمنحه فائدة مالية بمقدار 10% فوق المبلغ الذي يضعه على أن يتسلم المبلغ بعد عام وأصبح البنك وكيلا عن الشخص في إدارة أمواله ضمن نشاط تجاري محسوب ودقيق لمدة عام كامل، في هذه الحالة تكون الفائدة البنكية حلال” مضيفاً أن تحديد الربح في زمننا هذا فرض على البنوك وغير البنوك لأن عدم التحديد سيؤدي إلى ضياع حقوق الناس.
وفى السياق قال الدكتور شوقي علام مفتي مصر الحالي، أن القرض المحرم هو الذي يستغل حاجة الناس، أما البنك، فلا، لأن البنوك لا تحتاج استغلال الناس، فالعبرة في العقود للمعاني وليس للألفاظ، فالعلاقة ليست علاقة قرض بين البنك والمودع، بل هي استثمار، إذن ما يأخذه العميل في إطار الربح حلال، منوهًا إلى أن فقه التعامل المالي احتل دراسة واسعة عند فقهاء المسلمين، وانتهوا إلى وضع قواعد محددة في التعامل مع البنوك، داعيًا المواطنين إلى تقديم المصلحة العليا للبلاد بما لا يتعارض مع الشرع الحنيف.
أما الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف، فكان من المؤيدين لوضع فوائد البنوك، حيث أكد على أنها حلال، معللًا ذلك بأنها عقد استثماري في الأموال، ويجوز الانتفاع بها، والتصدق منها.
وأضاف “لا فرق بين بنك إسلامي وغير إسلامي، فكل البنوك خاضعة للبنك المركزي المصري، وما يسرى على فوائد البنوك يسرى أيضًا على عائدات سندات قناة السويس، وهى عقد جائز وحلال في الشريعة الإسلامية 100%”.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.