من أهم أسباب رفض المعاملات الاستثمارية في البنوك عند من يعتبرها رباً هو تحديدها للعائد بنسبة ثابتة، وليست كالمضاربة التي أقرها الإسلام والتي كانت تقسم العائد بين العامل وبين صاحب المال حسب الاتفاق بينهما مع جعل الخسارة على صاحب المال، أما التحديد –بحسب هؤلاء- فيجعل هذا العمل من قبيل الربا.
اعتراضات ونقاشها:
من أهم أسباب رفض المعاملات الاستثمارية في البنوك عند من يعتبرها رباً هو تحديدها للعائد بنسبة ثابتة، وليست كالمضاربة التي أقرها الإسلام والتي كانت تقسم العائد بين العامل وبين صاحب المال حسب الاتفاق بينهما مع جعل الخسارة على صاحب المال، أما التحديد –بحسب هؤلاء- فيجعل هذا العمل من قبيل الربا.
وبمقارنة صورة المضاربة تلك مع صورة التعامل مع البنوك نجد أن تلك الصورة البسيطة من المضاربة كانت تضمن الحق لصاحب المال إلى حد كبير، فهي صفقة ورحلة وقافلة بإشراف ومراقبة، وأرباح كبيرة أحياناً كانت لا تسمح بتحديد النسبة، أما تجارات اليوم فصارت مركبة ومعقدة ومحسوبة، إذ يمكن معرفة سقف ربحها الأعلى ومن ثم على أساسه يحددون، كما أن خساراتها نادرة جداً ويمكن تعويضها من الأرباح طوال العام.
وقد أجاب بعض العلماء على هذه المسألة بأننا لسنا ملزمون بصورة واحدة من المضاربة التي كانت موجودة قديماً، يقول الشيخ علي الخفيف: “إن الذي أثار اللبس والشبهة في هذا الموضوع هو مقارنة هذا التعامل بشركة المضاربة التي كانت معروفة في الجاهلية وأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام، ولكن إقرار الرسول لشركة المضاربة هذه لا يعني إلزام المتعاملين بهذه الصورة في استثمار أموالهم أو النهي عن غير هذه الصورة”( ). فالرسول صلى الله عليه وسلم وافق على صورة المضاربة التي كانت موجودة لاتفاق الطرفين عليها ولعدم حدوث أي خلاف حولها، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم ينه غن غيره هذه الصورة، فمن الخطأ أن ترفض أية صورة أخرى بدون أي دليل.
ويقول الشيخ عبدالوهاب خلاف: “إن اشتراط بعض الفقهاء ألا يكون هناك نصيب معيّن من الربح اشتراط ليس له دليل”. ويرى الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق ومعه علماء آخرين أن تحديد العائد مقدماً في شهادات الاستثمار، وما ماثلها هو لحماية صاحب المال ولدفع النزاع بينه وبين المستثمر، ولم يَردْ في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ما يمنع هذا التحديد مادام قد تمّ بالتراضي بين الطرفين، ونحن الآن في زمن ضعفت فيه الذمم، ولو لم يكن لصاحب المال نصيب معين من الربح لأكله شريكه.
وفي بيان آخر نشره بعد ذلك يقول: إن المعاملات في البنوك ليس مقياسها تحديد الربح أو عدم تحديده، وإنما مقياسها خلو المعاملات من الغش والظلم و الاستغلال والاحتكار أو عدم خلوها، فإذا خلت من ذلك كانت حلالاً وإذا وجد فيها شيء من ذلك كانت حراماً.
ويضيف: والفقهاء القدامى عندما قالوا إن تحديد الربح مقدماً يفسد المضاربة، إنما قالوا ذلك على حسب زمانهم وظروفهم، فإذا جدت ظروف استدعت تحديد الربح مقدماً، حتى يعرف كل طرف حقه، واتفق الطرفان على ذلك برضاهما المشروع، فإن شريعة الاسلام – وهي شريعة الحق والعدل والسماحة- لم يرد فيها ما يمنع من ذلك، ولاسيما أن هذا التحديد للربح مقدماً قد أصبح في زمننا هذا شيئاً ميسوراً، بعد أن تقدمت وسائل العلوم الاقتصادية، وصار كل خبير فيها يستطيع – في الغالب – أن يحدد موقفه، وأن يحدد ما يتوقعه من ربح أو خسارة، بعد أن يباشر الأسباب التي شرعها الله – تعالى – لذلك( ).
بل إن المصلحة في تحديدها صارت أكبر إذ أدى ذلك إلى نبذ التنازع وسوء الظن المنهي عنهما.
ومن الأسباب التي يذكرها الذين يرفضون معاملة البنوك أنه قد تحدث خسارة لمن أخذ الأموال لاستثمارها فيكون جوراً عليه وهذا يخالف صورة المضاربة.
أقول هذا ليس سبباً لجعل هذه المعاملة ربوية، ونسبة الخسارة ضئيلة جيدة في مثل هذه المعاملات، وهذه البنوك تستطيع تغطية عجزها من أرباحها الأخرى طوال العام، فالخسارة التي تحدث في 1% من المشروعات، يغطيها الربح من ال 99%. ويمكن هنا تطبيق القاعدة: إن من يعطيك في حالة مكسبه تعطيه أنت في حال خسارته.
وحتى مع وجود إشكال مثل هذا فلا يفترض أن نقول بربويتها وإنما العدل يقتضي أن نطالب بإصلاح ما قد يوجد من إشكال فيها، ولن تخلو البنوك المسماة إسلامية من علل ومشكلات فهذه طبيعة المعاملات المالية، بل طبيعة كل معاملاتنا الحياتية التي نضطر فيها بالخروج بأخف الضررين كي تستمر معيشتنا.
وهناك شركات ترفع شعار الإسلامية وتعد بالأرباح الكبيرة ثم تخسر ولم تعطي مضاربيها شيئا ولم يقل مخالفوهم بأنهم مرابون، وإنما أخطأوا التقدير والحساب في تجارتهم.
ومما يمكن أن يقال حول هذا الموضوع أن هذه المعاملة ربوية لأنها تجلب ربحاً بدون عمل، ويقال لهؤلاء إن المضاربة في بعض صورها تجلب ربحاً بدون عمل وهي حلال قطعاً، ويمكن أن يقال أيضاً إن المال جلب ربحاً بدون مغامرة، ويقال لهؤلاء إن هناك صوراً من المعاملة التجارية تجلب الربح دون مغامرة وهي حلال كتأجير الشقق والدور والأراضي الزراعية.
القرض الاستهلاكي:
ولكن إذا كان الرجل الذي أخذ من البنك مالاً للاستهلاك وليس للاستثمار، ما يمكن أن نسميه قرضاً استهلاكياً، أو بالأصح تمويلاً للاستهلاك لا الاستثمار، أي يُسْتَهلكَ وينفق، كأن ينفقه المقترض على نفسه أو على أسرته لأزمة معينة ألمت به، كالحاجة إلى الطعام أو الكساء أو مصاريف تعليم الأولاد أو علاجهم أو تزويجهم، فهل تعتبر هذه الحالة ربا؟
هذه القضية فيها تفصيل، لأن البنك لا يعطي قرضاً أو تمويلاً للاستهلاك، وإنما الأساس فيه التجارة والاستثمار، ولكن إذا كان هذا الرجل محتاج للمال للاستهلاك فالأولى أن المجتمع يقرضه قرضاً حسناً لمساعدته في هذا الاحتياج، ومن يفعل ذلك له أجر كبير يوازي أجر الصدقة، وهو من تفريج الكربات على المسلم، ومن باب التعاون والصلة والمواساة، والمجتمع الذي لا يفعل ذلك يأثم، فهو واجب على المجتمع وهو واجب من واجبات الدولة.
ولكن إن لم يجد الرجل أحداً يستدين منه وهو ما يحصل في زمننا هذا للأسف بعد أن زاد طمع الناس وجشعهم، وبعد أن قل الوعظ الديني أو انعدم في الترغيب بهذا العمل، وبعد أن حصل للناس مواقف سلبية من أناس اقترضوا ثم لم يوفوا، أو بسبب أن سعر العملة يتدهور فيكون سعرها وقت سدادها أقل من سعرها وقت الإقراض، وينبغي معالجة هذه المشكلة بحساب الفارق واعتباره حين السداد، لأن العملة الورقة ليست ثابته كالذهب والفضة، ولو أن المقترضين قالوا لمقرضيهم ذلك فلربما خفت المشكلة.
كل هذه الأسباب جعلت الناس لا يدينون غيرهم للأسف، وهذا جعل المحتاج للمال في حرج كبير ولم يعد له باب مفتوح غير البنك، ففي هذه الحالة يأخذ المال الذي ليس أساساً ديناً وإنما هو تمويل استثماري ليسد به حاجته، وهذه من باب رفع الحرج عن الناس وهي قاعدة مهمة في الشريعة الإسلامية.
والناس في هذا فريقان: فريق رتب نفسه لسداد ذلك المبلغ ولديه مال سيتأخر لسبب من الأسباب، كأن يبيع شيئا في وقت لاحق، أو ينتظر حصاد زرع، أو ربح تجارة، أو استلام حقوق من عمله أو غير ذلك فهذا لا بأس أن يأخذ المبلغ مضطرا إن لم يدينه الناس.
وفريق لا يوجد معه ما يسدد ذلك المبلغ عند بلوغ الأجل، فالأولى أن لا يأخذ من البنك وليبحث عمن يساعده أو يدينه لأجل بعيد، وإن فعل ذلك مضطرا مع البنك لسبب مستعجل في سد حاجته أو ضرورته فليحاول أن يبحث عمن يساعده لسداد البنك، فالبنك في كل الحالات لم يعمل مع الرجل عقد قرض وإنما البنك جهة استثمارية الأصل في عقودها الاستثمار.
ولا أرى فرقاً في هذه الحالة بين ما تقوم به البنوك (المسماة ربوية) من تمويل ثم يستهلكه، وما تقوم به البنوك الإسلامية من شراء سيارة ثم يبيعها ليستهلكها، فكلاهما أخذها للاستهلاك لا للاستثمار، وكلاهما سيطالبه البنك بالمال ولن يعفيه.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.