تفقد الأمكنة جزءاً حميماً من ملامحها، مثلما تفقد الأزمنة جزءاً صميماً من ذاكرتها، إذا فقدت شيئاً من مكونات النسيج الذي يؤلف موزاييك هذه الملامح أو فسيفساء تلك الذاكرة.
تفقد الأمكنة جزءاً حميماً من ملامحها، مثلما تفقد الأزمنة جزءاً صميماً من ذاكرتها، إذا فقدت شيئاً من مكونات النسيج الذي يؤلف موزاييك هذه الملامح أو فسيفساء تلك الذاكرة.
والمدن هي أقرب الأمثلة على هذا المشهد وذاك الفقدان. فالمدينة -مكاناً وزماناً- هي التجسيد المكثف لكل ما يتصل بملامح الأشياء وذاكرتها عبر بُعدها الثالث: الانسان.
وعدن واحدة من هذه المدن التي تخلَّقت لها عبر التاريخ ملامح في المكان وذاكرة في الزمان، حملها الانسان في تلافيف وعيه ووجدانه وفي دفاتر بهجته وأحزانه.
ويوماً اثر آخر، تفقد عدن جُزيئات شتى من ملامحها تحت وطأة سنابك القبح في القيم والأخلاق قبل البيئة والمعمار.. مثلما تفقد كُريَّات عديدة من ذاكرتها تحت سطوة ليِّ العنق القسري للتاريخ والجغرافيا وما بينهما، على نحوٍ لم يكن ليتوقّعه عقلٌ قط، ولا عقل جمال حمدان!
…
في مدينة لها اسم عدن. مدينة من الماضي لا تشبه تلك التي تحمل الاسم نفسه اليوم. كان ثمّة رجل (عفواً، كان ثمّة انسان) يُدعى حامد جامع. حامد جامع فقط. حامد جامع فحسب.
– أتدري يا حامد أن الله يحب كريتر كثيراً جداً، ربما بسببك أنت!
التفت إليَّ ومشروع ضحكة ساخرة تتقلقل بين شفتيه: كيف هذا الكلام يا ليد
– لأنه جمعَ حامد جامع وجامع حامد في حيٍّ واحد!
وتنطلق ضحكة مُجلجلة: لا لا لا.. هذي قفشاتك عجيبة عجيبة يا ابن عبدالوارث!
– صدّقني يا صاحبي، كريتر بلا طعم ولا رائحة من غير حاجات قليلة جداً، أنت بينها حاجة مليحة جداً.
ويروح الصوملي الذي خرج ذات مساء بعيد من باب خلفي في الجنة، لكنه أضاع طريق العودة إليها، يُوزّع ضحكاته وأفكاره وسخرياته وأحلامه وذكرياته وآلامه -مصحوبةً بحركات سبَّابته اليمنى- على كل ذرات الهواء التي تمر قبالته ومن خلاله إلى كل الدروب التي تقطع كريتر الى عديد من الجهات، لا أحد يعرف ملامحها جيداً سوى حامد جامع، لأنها -وببساطة متناهية- جميعها تؤدي منه إليه.
…
تركهُ عمر عند المحطة، ومضى وحيداً بعيداً..
تركه القرشي عند المحطة، ومضى وحيداً بعيداً..
تركه “الدوك” عند المحطة، ومضى وحيداً بعيداً..
– هل كانوا هم الذين يتركونك ويمضون يا حامد، أم كنت أنت تتجاوزهم بخطواتك السريعة والمتلاحقة؟
وظل حامد يبحث -بعدهم- عن الظل والظلال، فلا يجد سوى الضلال في كل شيء، في الناس والأخلاق والأفكار والمواقف. وبدأت عدن تضيق. بدأت كريتر تضيق. غير أن حامداً لم يضق قط بالناس وبالأشياء في المدينة التي لم يحبها، لم يعشقها، لم يتعبَّدها فحسب، بل كانها كأنْ يكون الانسان نفسه.
– من ترى سيترك الآخر قبلاً يا حامد، أنت.. أم سعيد عولقي؟
– هذا بدوي عَرِز يا صاحبي!
وراحت الضحكة تنطلق كالبرق من الميدان إلى الزعفران وصولاً إلى القلعة. تمرُّ على المُصلّين والصيادين والعجائز والحدادين والمتقاعدين وأصحاب الليم والفل والعطر والحلاوة.. تصافحهم وتُلقي عليهم السلام والتحية من حامد، وتَعدهم بغدٍ أبهى لهذه المدينة التي واعدت حامداً على بهجةٍ مختلَسة عند آخر عطفةٍ في الخُساف، لكنه فرَّ منها في لحظة هذيانٍ استثنائي إلى ليلته الأخيرة في فراشه الأخير، تاركاً سبَّابته اليمنى تُرشد الجميع إلى حيث تنتهي رحلته الأخيرة عند باب المقبرة!
…
بعد خمسين سنة، سيأتي شاب ليست له أدنى صلة بمدينة حامد ليكتب تاريخها..
سيقول أشياء كثيرة من وحي المنهاج التفكيكي للتاريخ. وسيزعم أن هذه المدينة كانت كوزموبوليتانية عبر تاريخها المديد..
وسينسى هذا الشاب -الذي يزعم أنه مؤرخ- أن يكتب أهم جملة في كتاب تاريخ عدن:
“… وكانت عدن مدينة كوزموبوليتانية… أيام حامد جامع”.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.