يفكك الباحث والشاعر اليمني أحمد الطرس العرامي المُتَداوَل على ألسنة الفلاحين في كثير من مناطق اليمن المعروفة بخصوبة أرضها وغنى ثقافتها الشفاهية المرتبطة بيوميات الحرث والبذر والسقي وصولاً إلى الحصاد وما قبل ذلك وما بعده، من مهايد وترانيم زراعية (أحكام) توارثها الفلاحون وحفظوها شفاهاً امتداداً لموروث أسلافهم.
يفكك الباحث والشاعر اليمني أحمد الطرس العرامي المُتَداوَل على ألسنة الفلاحين في كثير من مناطق اليمن المعروفة بخصوبة أرضها وغنى ثقافتها الشفاهية المرتبطة بيوميات الحرث والبذر والسقي وصولاً إلى الحصاد وما قبل ذلك وما بعده، من مهايد وترانيم زراعية (أحكام) توارثها الفلاحون وحفظوها شفاهاً امتداداً لموروث أسلافهم.
لكن هؤلاء الأسلاف/ الحكماء، الذين في طليعتهم الحكيمان الشهيران علي ولد زايد والحُميْد بن منصور وغيرهما من حكماء الأدب الشفاهي الزراعي اليمني، يفترض الباحث العرامي أنهم أقرب إلى أن يكونوا شخصيات أسطورية (أو ظلال لأنصاف آلهة) لم تكن واقعاً في تلك الحقب والفترات الماضية من تاريخ اليمن: “لهم جذور أسطورية، لا تاريخية، وقد يكونون ظلالاً لشخصيات آلهة أو أنصاف آلهةـ أنبياء أسطوريين، ذوي اختصاص زراعي، في سياق قومي إقليمي كانوا جزءاً منه كآلهة أو أنبياء مختصين في إنتاج المقولات الدينية الطقسية، والاجتماعية الأخلاقية، والزراعية التنبؤية”، ومع مرور الزمن والرحلة الشفاهية تماهت الأسطورة لتصبح شخصيات هؤلاء “أكثر بشريةً”. وذلك بعد أن “فقدت الكثير من الأنساق والعلائق الأسطورية، بينما بقيت محتفظة ببعض وظائفها وفاعليتها ودلالتها الأدبية الدينية والاجتماعية الإقليمية”.
ظلال آلهة!
يذهب أحمد العرامي في كتابه “ديانةُ اليمنِ السّريَّة/ ألوهية الحكيم الفلاح في الموروث الشعبي” الصادر حديثاً إلى أن “ما يُنسب إلى حكماء الفلاحة في اليمن، إنما هو أصداء لـ(ملاحم دينية زراعية تفككت)، وأما شخصياتهم فهي بقايا أو ظلال لشخصيات (آلهة أو أنبياء أسطوريين زراعيين تنكروا)، وقد تكون النصوص المنسوبة إلى هؤلاء (حكماء الفلاحة) ظلالاً أو أصداءً لملاحم زراعية أدبية دينية، ربما عرفت في اليمن القديم، وظلّت متداولة في المجتمع جيلاً عن جيل تُصاغ وتُعاد صياغتها، وتتوارثها الأجيال، وتحافظ قدر الإمكان على مضامينها وقوالبها الفنية، نظراً لمكانتها الدينية، ووظيفتها الاجتماعية الاستثنائية”. كما يفترض الباحث أن هذه الملاحم في أصولها القديمة “يبدو أنها كانت ملاحم عملية، أدبية، دينية، وعملية، أي مرتبطة بالعمل الزراعي تحديداً، وأدبية من حيث صياغتها وقالبها، ولغتها، وأما
دينية فمن حيث علاقتها بالمعتقدات الزراعية، وتحقيقها وظائف النص الديني الطقسي، والمرجعية الأخلاقية الاجتماعية، وهو ما يبدو أنها بقيت تحافظ على بعض منه حتى الآن، بما في ذلك ارتباطها بمرجعية دينية زراعية”.
ينقسم الكتاب الواقع في (455) صفحة من القطع الوسط، وهو أحد إصدارات “أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالقاهرة” لهذا العام، بعد مقدمة الباحث، إلى ثلاثة فصول، وإجمالاً اعتمدت الدراسة المنهج التكاملي (المقاربة والمقارنة والتحليل): مقارنة النصوص بما وصلنا من نماذج أدبية من اليمن القديم أو نماذج أخرى من ثقافة الشرق والغرب القديمين، بما في ذلك حضارات “آشور وبابل والحضارة الإغريقية”. ويسبق ذلك قراءة النصوص من الناحية الأسلوبية والرمزية ودلالاتها الاجتماعية؛ مقاربة العلاقة المتناقضة بين طابعها الزراعي والأدب العربي الكلاسيكي (الجاهلي) ذي الطابع البدوي.
الفصل الأول هو أشبه بفصل تأسيسي، وفيه يتعرف القارئ على ظاهرة “ألوهية الحكيم الفلّاح” في سياق تحليلي، وتدريجي، بدءاً من أهم الملاحظات والإشارات حول الظاهرة أو بعض شخصياتها، مروراً بتعريف شامل بها، والتساؤل حولها، ثم التعرف إلى نموذجين تطبيقيين، في سياق الدراسة، هما الحكيمان شرقه وسعد السويني، ثم بعد ذلك مقاربة طائفة الحكماء الفلاحين في اليمن ومقارنتهم بطائفة الحكماء الفلاحين الذين ورد ذكرهم في الفلاحة النبطية، وصولاً إلى خصائص الظاهرة التي تميزها والتي تمثل في مجملها بقايا أو ظلالاً لعناصر الدين.
كما يقدم الفصل الافتتاحي للدراسة ما يشبه مقاربة كلية لمجموع الحكماء الفلاحين الذين نعرفهم في الثقافة الشفاهية في اليمن، وباستثناء أن كلاً من الحكيمين شرقه وسعد السويني نالا مساحةً واسعة من ذلك إلا أن الباحث رأى أن يحظى كل حكيم على حدة بدراسة مستقلة، تغوص في
التفاصيل وتحدد أهم الملامح البارزة لأسطورته الملحمية.
أما الفصلان الثاني والثالث (يمثلان معاً الجزء الأكبر من الكتاب)، فقد تناول فيهما العرامي شخصيتي الحُميْد بن منصور وعلي ولد زايد “نظراً للتجانس بين ظاهرتيهما، ونظراً لكونهما أكثر الحكماء شهرة وإثارةً وأوسعهم انتشاراً واختصاصاً، وزخماً في المادة الشفاهية التي تتوزع بدورها على ثلاثة محاور هي الأقوال، الأوصاف، الحكايات، وتمثل من حيث الكم مادةً كبيرةً سوف تستغرق دراستها الفصلين المذكورين، على أن يختص كل فصل منهما بجانب محدد من تلك المادة الشفاهية”.
ملحمة هزيود
وبشكل موسع كرِّست الدراسة لمقاربة الأقوال المنسوبة إلى الحكيمين علي ولد زايد والحميد بن منصور، على أساس فرضية أنها قادمة من ملحمة أو نص زراعي قديم، تفكك إلى أغان وأمثال شعبية، وهو ما يمكن أن تفيدنا بخصوصه مقاربتها بملحمة الأعمال والأيام لهزيود، وهزيود هو أول فيلسوف فلاح، وملحمته واحدة من أقدم النصوص الزراعية في تاريخ الأدب الإنساني.
وتطرق الباحث في الفصل الثالث للجزء المتبقي من المادة الشفاهية (الأوصاف والحكايات)، وبتعبير آخر: “شخصية الحكيم”، في مقاربة تحليلية لمعرفة كنهها أكثر، وفي نفس الوقت معرفة الدلالات التي تحملها الحكايات والأنساق الأسطورية التي تتصل بها، بما سوف يستلزمه ذلك من مقاربةٍ لها وفقاً لعلاقاتها التناصية والدلالية وأنساقها الأسطورية التي تشي بها ويمكن أن نستشفها من المادة الشفاهية التي ما تزال حيةً وفاعلة.
تمثل ظاهرة هؤلاء الحكماء، بحسب الباحث العرامي، أكثر ظواهر الثقافة الشفاهية في اليمن خصوصيةً وتفرداً، ولكنها لم تحظ بما تستحقه من الدراسة والبحث، فما كتب عن أحد الحكماء أو بعضهم لا يكاد يشبع الظاهرة من مختلف جوانبها، عوضاً عن أنه لا علم لنا أن أحداً قد تناولها من ناحية إمكانية صلتها بأدب يمني قديم، و”هي القضية المركزية في هذا الكتاب الذي أذهب فيه (يقول العرامي) إلى أننا، فيما يتعلق بهؤلاء الحكماء وما ينسب إليهم أمام بقايا من أدب اليمن القديم احتفظت به الذاكرة الشفاهية نظراً لقداسته واستثنائيته”.
بعيداً عن الميثولوجيا
هناك الكثير من الصعاب أمام مناقشة فرضية مثل هذه، بحسب العرامي، الذي يستدرك أنه “مع ذلك كان لهذه الدراسة أسلوبها وطريقتها الخاصة التي يمكن أن تتجاوز عبرها عقبات كثيرة
تفرضها طبيعة الظاهرة والمصادر والمقاربات، ولكن ما علينا أن ننوه إليه، هو أننا لن نكون بصدد جدل تاريخي، ولا بصدد دراسة (دينية) أو (ميثولوجية)، بقدر ما نحن بصدد دراسة أدبية بدرجة أساسية، تداخلت فيها عدة اختصاصات أو زوايا نظر، انطلاقاً مما تفرضه المادة نفسها من مقاربات، كما هي الحال مع الآليات النقدية نفسها الممكن استدعاؤها في دراسة ظاهرة كهذه تتألف مادتها من عدد غير قليل وغير متجانس من النصوص الشفاهية، تتوزع ما بين الأقوال، والأوصاف، والحكايات. وهي، بالإضافة إلى السياق والوظائف، تستدعي استخدام مزيج من أدوات النقد والتحليل، كتحليل الشكل والمضمون والتناص والأسلوب، وعلى اختلاف ذلك ما بين السرد والشعر. وفي سياقات تتعدد ما بين التحليل الاجتماعي/ السوسيولوجي، والوصفي، والمقارن، وغير ذلك من زوايا النظر الممكنة إلى النص/ الظاهرة، بحسب ما تستدعيه الحاجة، بما في ذلك المقايسة والمقاربة بالنصوص والآداب والتقاليد والأفكار والمعتقدات والطقوس والملابسات الخاصة بثقافة اليمن القديم، إن وجدت، وبثقافات الأمم الأخرى، إن أمكن. وكل ذلك بهدف تقديم رؤية أكثر شمولاً وإحاطةً بالظاهرة، لا تكتفي بالجدل حول جزئياتها، وإنما تتجاوز ذلك إلى قراءتها وتفسيرها من مختلف جوانبها”.
ويجد الباحث في سياق مقاربته للحكيمين علي ولد زايد والحميد بن منصور ومقارنة ذلك بظاهرة هزيود تشابهاً بين الأدب الزراعي اليمني والأدب الزراعي الإغريقي: “بعض المقاربات تأخذنا إلى البعيد، فمقاربة الحكيمين علي ولد زايد والحميد بن منصور بظاهرة هزيود، تنتهي إلى حقيقة لم تكن في الحسبان، وهو أن مقدار التشابه يتعدى البنى الكبرى إلى التفاصيل، أي إلى التناص الواضح والصريح الذي يشي بأن ثمة قرابة أو علاقة بين الأدب
الزراعي اليمني، والأدب الزراعي في الحضارة الإغريقية، وسيقودنا مثل ذلك إلى تساؤل مُلحٍ يتعلق بالتأثير والتأثر؟ وهو أمر نذهب إلى أنه حدث على الأرجح، لكن الأولى بنا هو دراسة الظاهرة التي بين أيدينا، من حيث طبيعة حياتها الشفاهية وسياقها ووضعيتها الخاصة، وما يتعلق بها من تقاليد، وما تثيره من أسئلةٍ من قبيل: كيف بقيت هذه الأدبيات القديمة حيةً في الثقافة الشفاهية، وما طبيعة حياتها وفاعليتها؟ وما علاقة ذلك بالأصول التي يمكن أن تكون قد انحدرت منها”.
أفرد العرامي حيزاً كبيراً في كتابه لمقاربة ظاهرتيّ الحكيمين علي ولد زايد والحميد بن منصور، ولتبرير اهتمامه أكثر بهذين الحكيمين، يشير إلى أنه: “ليس فقط لأنهما يأتيان في صدارة الحكماء الفلاحين في الثقافة الشفاهية (في اليمن)، ولكن لأن دراستهما أيضاً كانت هي الفكرة الأولى التي انطلق منها مشروع هذا الكتاب”. على أن الكتاب في المجمل، تعرّض لمناقشة ومقاربة ظاهرة الحكيم الفلاح في الثقافة الشعبية.
أدبيات دينية في أصولها
ومن بين ملاحظات كثيرة يسردها الباحث العرامي: “لدينا ظاهرة أدبية زراعية ما تزال حيةً شفاهاً في اليمن في عصرنا هذا، وعند دراستها وجدنا أنها تشبه نصوصاً وآداباً قديمة مثل (الأعمال والأيام لهزيود 750 ق.م)، بمعنى أنها تنتمي على نحو ما إلى أدب العالم القديم، وإذا ما عرفنا أنه وفي ذلك العالم القديم، لم يكن الأدب منفصلاً عن الدين، فإن هذا يرجح أن الظاهرة الشفاهية التي نحن بصددها قد تكون في أصلها أدبيات دينية، ومن شأن مثل هذا أن يفسر لنا سر بقائها منذ زمن بعيد حتى الآن، دون أن يتعارض ذلك مع كونها تبدو ذات طابع دنيوي نظراً لما يمكن لنص قطع كل هذه الرحلة الزمنية أن يتعرض له من المتغيرات التي تشمل أنسنته وتكييفه وتهذيبه، في الواقع فإن مثل هذا هو ما يؤهل أي أدب ديني أو أسطوري أن يتحول إلى أدب دنيوي، ولكن هذا ما لم يحدث في حالتنا، إذ ما زال هناك ما يدل على الأنساق الوثنية، وأكثر من ذلك ما تزال أدبية الظاهرة فاعلة في هيئةٍ أقرب ما تكون إلى طبيعة الدين، هذا ما تدل عليه طبيعة الظاهرة وهي تحضر في سياق وظائف الظواهر الدينية، حين يبدو الحكيم مرجعية موازية للمرجعية الدينية، ونصوصه بمثابة الأحكام التشريعية (بل إن “أحكام” هو التوصيف الذي يطلق عليها في الثقافة الشعبية)، وهي ليست تسمية من فراغ، ذلك أن الجماعة تعاملها، وتحتكم إليها، مثل الأحكام التشريعية، وليس احتكام الفلاحين إلى بعضها بدلاً من النص القرآني سوى دليل عملي على قداستها، ولكن حدوث هذا في فترةٍ مثل عشرينيات القرن الماضي، يدل على أنها كانت قبل ذلك أكثر قداسةً مما هي عليه الآن، وذات أهمية بالغة أكثر مما نتصوره”.
ومن جانب آخر يخلص العرامي إلى أن هذه الظاهرة، وفي أدنى مستويات دلالتها الثقافية، باعتبارها جزءاً من أدب الهامش، تمثل فعل مقاومة لهيمنة الثقافة الرسمية، على خلفية التوتر بين كل من ثقافة الهامش وثقافة المركز، وهذا يعني أنها ومن الناحية السوسيولوجية تمثل أدبا زراعيا (في مقابل الأدب العربي الكلاسيكي ذي الطابع البدوي)، أي في موقع النقيض المناهض والضد، عوضاً عن كونها تمثل أدبيات دينية (في مقابل الأدبيات الدينية الرسمية)، مثل ذلك يجعلها جزءاً من مقاومة المجتمعات الزراعية لأشكال الهيمنة (الدينية- السياسية- الثقافية)، وهي مسألة تبدو قريبةً من بقاء بعض أدبيات الديانات الزراعية حيةً وفاعلةً حتى ما بعد الإسلام، كما هي الحال مع كتاب (الفلاحة النبطية)، وفي إطار قومي/ ديني يتصل على نحوٍ ما بالديانات السرية.
وفي فترة انهماكه في دراسة “ظاهرة ألوهية الحكيم الفلاح” ركز الباحث على البحث والاستقصاء في ما تدونه الذاكرة الشفاهية للفلاحين وما تحفظه وتتداوله عن الأسلاف، ذلك لأنه: “يبقى لدينا مصدر أخير (كما يقول) يمكن أن يكون أحد مصادر معرفتنا باليمن القديم، من الملاحظ أن هذا المصدر لم يعط حقه من قبل، على أهميته البالغة، ونعني بذلك الذاكرة الشفاهية لإنسان هذه الأرض، من حيث أن الذاكرة الشفاهية تمثل وسيطاً أساسياً تتناقل عبره الأجيال معارفها وثقافتها وخبراتها، بل إن بعض الأمم قد اعتمدت الذاكرة الشفاهية كذاكرة أساسية، وهو ما ينطبق على المجتمع اليمني القديم، الذي اعتمد، مثل كل المجتمعات الشرقية القديمة، على ذاكرته الشفاهية في حفظ خبراته ومعارفه وتداولها، بالرغم من أن تاريخ الكتابة، فيما يعرف بخط المسند، يعود إلى حوالي القرن العاشر ق.م، قبل أن يتوقف في القرن السادس الميلادي، أي حوالي قبل ستين سنة تقريباً من بعثة النبي محمد، ولقد كان لدخول اليمنيين الإسلام أثره في هجر هذا القلم، مثلما كان لذلك أثره في إحلال نظام الكتابة العربية المعروف الآن، محل خط المسند، ولكن هذا النظام الجديد سوف يظل نخبوياً، وتسود الأمية زمناً طويلاً وحتى الآن، ما يعني استمرار دور الذاكرة الشفاهية، وكذلك استمرار (اللغة المحكية) محملة بالكثير من عناصر الثقافة كما يبدو، ذلك أن ما حدث فيما يتعلق بنظام الكتابة لا يصدق على (اللغة المحكية)، فبالرغم من أنه ومنذ زمن بعيد جرى أيضاً إحلال العربية الشمالية (لغة وسط شبه الجزيرة العربية المعروفة بالفصحى) محل العربية الجنوبية، إلا أن ذلك لم يكن يعني هجران الأخيرة كلياً كما حدث مع الخط، وقد تحدث الهمداني عن قبائل يمنية لا تزال تتحدث لغتها الأصلية في عصره، وأما في عصرنا فإن التأمل والبحث في الدارجة اليمنية، يكشف باستمرار عن مفردات وظواهر لغوية لا يمكن أن تكون من تأثير (العربية الفصحى)، وهو اتجاه مهم بدأ يتحول لمشاريع بحثية في لغةٍ يمنيةٍ خاصةٍ من الملاحظ أن معدل خصوصيتها
يزداد كلما كانت أكثر صلةً بالجانب الزراعي الأكثر اتصالاً بالهوية اليمنية، وبعداً عن (بداوة) الصحراء بيئة العربية الفصحى”.
لا يستبعد العرامي “أن نجد إلى جانب هذه المفردات والظواهر اللغوية القديمة معاني أو أنساقاً أو ثيمات أو أنماطاً أدبية أو أساطير، ما تزال حيةً شفاهاً، بغض النظر عن لغتها التي ليس بالضرورة أن تكون قديمةً قدم المضامين، والأشكال، فالمجتمعات التي تتعرض للتحولات القسرية، أو غير القسرية، وتحل فيها لغة جديدة محل لغتها الأصلية، لا تقيم قطيعةً تامةً مع ماضيها أو ثقافتها القديمة، لأن التحول من لغة إلى أخرى لا يحدث دفعةً واحدةً، بل يحتاج زمناً طويلاً عادةً ما تتخلله إعادة صياغة الأفكار والنصوص والأساطير، شيئاً فشيئاً، صحيح أن التحولات في حد ذاتها تفرض معها ثقافة جديدةً، هي ثقافة المهيمن، إلا أن الثقافة المهيمن عليها لا تكون مستلبةً كلياً، كما يقول الماركسيون، بل تظل تمثل نوعاً من أنواع المقاومة، في إطار سعي كل تجمعٍ بشري للدفاع عن خصوصيته”.
ومتابعاً ينوه الباحث أنه “في قرى اليمن الزراعية، حيث أجيال متعاقبة من البشر تتوارث الأرض والمهنة واللغة والعزلة وعناصر الحياة البدائية، وأشكالا قديمة من العرف والقواعد الاجتماعية والأخلاقية والتقاليد، والأزياء، وأساليب البناء، وبعض الأنماط الاقتصادية، وتراكما من خبرات الحياة، تحيا أشكال وظواهر متنوعة من الثقافة الشفاهية الأدبية والفنية، بما فيها من حكايات وأغان وزوامل وبالة ودان وحازي وملالة وسميّات ومهاجل وأمثال وحكمة اجتماعية وأساطير، وغيرها مما يتنوع بتنوع المناطق، والفئات الاجتماعية، والمناسبات، والوظائف، والخصائص الفنية والموضوعية. غير أن أبرزها هو ما تمثله الثقافة الزراعية المرتبطة بالأرض والعمل فيها. مما يصاحب النشاط الزراعي أو يعبر عنه، ويتصل بالخبرات العملية والتجريبية المتعلقة بالفلاحة، أو يتضمن هموماً وقضايا اجتماعية أخلاقية من قلب المجتمع الزراعي، وغير ذلك مما لا يستبعد أن يكون استمراراً لمعرفة زراعية اجتماعية متراكمة ومتجددة، وربما امتداداً لتقاليد أدبية فنية قديمة نسج على منوالها المبدعون والشعراء والحكاؤون، أو ظلالا لنصوص وحكايات وأساطير قديمة، جرى تعديلها وتكييفها باستمرار، أو مزيجا من هذا كله”.
ويبين الباحث أن “أسطورة الحكيم الفلاح” أو ما يعرف بالحكماء الزراعيين، أو شعراء الأحكام “هي أبرز ظواهر الأدب الزراعي في الثقافة الشفاهية في اليمن”. وأن “علي ولد زايد، والحميد بن منصور، وشرقه بن أحمد، وأبو عامر، وحزام الشبثي، وسعد السويني، هم جميعاً شعراء، حكماء، فلاحون، يشتهرون في الثقافة الشفاهية في مناطق مختلفة من اليمن، وتنسب إلى كل منهم طائفة من الأقوال التي تتضمن بعض القواعد الاجتماعية الأخلاقية، والخبرات الزراعية المتعلقة بزراعة الأرض ومعالجتها، بما في ذلك المواسم والمعالم الزراعية والتقويم الزراعي، وهذه الأقوال يتناقلها الفلاحون جيلاً عن جيل وبالتواتر”.
غير أن “أقوال” و”أحكام” من يُشار إليهم بـ”حكماء الفلاحة في اليمن” يفترض أحمد العرامي أنه “لا شيء يؤكد نسبتها إلى هؤلاء الحكماء فعلاً، عوضاً عن مجهولية شخصياتهم، فبالرغم من حضورهم القوي والطاغي إلا أن لا معرفة لدينا أين عاش أي منهم؟ أو متى؟ وكل ما نعرفه إنما مصدره الثقافة الشفاهية التي تتجلى فيها شخصيات هؤلاء الحكماء في هيئة أسطورية أكثر منها تاريخية. بيد أن كلاً منهم يختص بـ”الحكمة الزراعية” دون غيرها، كما يختص بمنطقة محددة به يصبح فيها جزءاً من الهوية الجماعية، ويمثل فيها المعلم الأول للفلاحين، بل إن ما يعتقده الفلاحون حوله من معتقدات يضعه في مصاف الحكماء الاستثنائيين ويكسبه مكانة مقدسة”.
تفسير النقوش المسندية
وأمام هذا المنجز البحثي (الذي يعتبره صاحبه كشفاً هاماً وجديداً لم يسبق لأحد التطرق له على هذا النحو الذي خرجت به دراسته للظاهرة) ينطلق العرامي في الاتجاه عينه من ضرورة “قراءة تاريخ اليمن وثقافته بشكل مختلف: إمكانية تفسير النقوش المسندية ذات الطابع الأدبي، وفقاً لمعطيات جديدة؛ تاريخ الأدب العربي ومسلَّمة اقتصاره على الجاهلية زماناً ومكاناً؛ قضية وجود أدب يمني قديم؛ علاقة الدين بنشأة الأدب العربي؛ علاقة الفنون الشعبية في الثقافة
الشفاهية بآداب ما قبل إسلامية؛ العلاقات الثقافية بين اليمن وحضارات العالم القديم: بابل وآشور والنبط والحضارة الإغريقية؛ الدعوة لإعادة النظر بخصوص كتاب الفلاحة النبطية؛ إعادة إثارة النقاش مجدداً حول ظاهرة هزيود؛ وربما غيرها من القضايا والمسائل”. وفي السياق نفسه يعترف الباحث أنه لم يحاول تغطية كافة الجوانب والخلفيات النظرية لمثل هذه القضايا، بقدر ما كان عليه دراسة ظاهرة (بعينها) ومحاولة تفسيرها من مختلف جوانبها. كما أن تركيزه كما ينوه: “كان منصباً على البحث عن طبقة من النصوص والأنساق والدوال والإشارات التي قد تفيد (وتسهم في إثراء موضوعة البحث) بخصوص هويتها القديمة/ الجديدة، وملامحها الخاصة التي تميزها، وتكشف لنا بعض أسرارها، وتمكننا من فهمها من الداخل، ومن خلال المقايسة أيضاً”.
وفي إشاراته حول كتاب “الفلاحة النبطية”، الذي يعد واحداً من الكتب النادرة في الثقافة العربية ويقال إن ابن وحشية نقله من الآرامية إلى العربية، وإن مؤلفه الحقيقي هو “قوثامي” الذي يذهب البعض إلى أنه عاش في بابل وكتبه في النصف الثاني من القرن الثاني للميلاد وضمّن كتابه أقوالاً ومقتطفات مطولة من كتابات من سبقه من البابليين والكنعانيين إلى التأليف في الفلاحة، ينوه العرامي أن مادته في الحقيقة هي عبارة عن تراكم من المعرفة الزراعية تنتمي للموروث الزراعي في شمال شبه الجزيرة العربية، بما يمكن أن يكون لهذه المعرفة من سمةٍ جماعية تشاركية في تشكيلها وبنائها. ويجد العرامي أن حكماء الفلاحة النبطية كما عرفناهم في كتاب (الفلاحة النبطية)، يشبهون حكماء الفلاحة اليمنية كما عرفناهم في الثقافة الشفاهية في اليمن، من حيث أن هؤلاء الحكماء يتميزون بهذا الاختصاص الحكمي المغلق على “الحكمة الزراعية”.
في ختام الدراسة يشير العرامي إلى قائمة بـ(97) من المراجع/ الكتب، وعشرات الدراسات والمقالات لمؤلفين وكتّاب وباحثين أفادته في إنجاز دراسته التي لم تقتصر على ذلك، إنما أوغلت في التقاط أحاديث وشهادات وجلسات استماع وتوثيق استقى منها المعلومة كما تحدث عنها ورواها بصورة حصرية للباحث عدد من الفلاحين والشخصيات المهتمة بهذه المحفوظات الشفاهية في اليمن.
نقلا عن منبر عربي “ضفة ثالثة”