العناد من صفاتِ الأذكياء الذين يعرفون الحقيقة ويحيدون عنها، ولو أعدنا قراءة السيرة النبوية – وخاصة المكية منها – بتمعن، لتكشفت لنا الكثير من السُلوكيات والأعمال المُقززة التي كان يمارسها كفار قريش، ما تزال حتى اللحظة تُعيد نفسها، وبعناوين مُختلفة، مع فارق أنَّ أبطالها الجُدد مُسلمون بما أنزل على مُحمد.
في حياتنا المُلبدة بالتمزق والشتات، ثمة سياسيون وإعلاميون كُثر، يجترون ثقافة الخنوع والتبعية، ويتعايشون مَعها، ويعتاشون بها، ويوهمون الرأي العام بأنَّ ما يقولونه هو عين الصواب، ولو تتبعنا تصريحاتهم «المُطعفرة» هنا وهناك، لوجدناها حَافلة بالتناقضات، يَحتفون بانتكاساتنا، ويجيدون فن تجميل هزائمنا، ولا يعيرون الوطن والمواطن أي اهتمام، يقتاتون على أوجاعه، ويسترزقون من أعدائه، ويغيبون الحقائق، ولا يجرؤون على البوح بها ـ عناداً ـ وكبراً ـ وإرضاءً لمصالحهم ومصالح أحزابهم.
العناد من صفاتِ الأذكياء الذين يعرفون الحقيقة ويحيدون عنها، ولو أعدنا قراءة السيرة النبوية – وخاصة المكية منها – بتمعن، لتكشفت لنا الكثير من السُلوكيات والأعمال المُقززة التي كان يمارسها كفار قريش، ما تزال حتى اللحظة تُعيد نفسها، وبعناوين مُختلفة، مع فارق أنَّ أبطالها الجُدد مُسلمون بما أنزل على مُحمد.
ودعوة الإسلام العلنية في عامها الأول، سمع الشيخ الثمانيني الوليد بن المُغيرة قوله تعالى: «إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذِي القربى وينهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون»، أعجب الرجل بالآية الكريمة أيما إعجاب، وقال مقولته الخالدة: «إنَّ له لحلاوة – يَقصد القرآن الكريم – وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أسفله لمُغدق، وأنَّ أعلاه لمُثمر مُورق، وإنَّه يعلو وما يُعلى عليه، وما يقول هذا بَشر».
لم يكن ذلك الإعجاب وليد تلك الآية، فحتى تلك اللحظة لم يُسجل المؤرخون على «ابن المُغيرة» مُوأذاته للرسول الأعظم؛ بل كان ذو رأي راجح، ونزعة مُسالمة، لينطوي بعد مقولته السابقة على نفسه، وأصبح كثير الصمت، دائم التفكير، لدرجة أنَّ أقرانه شكوا في إسلامه، وبالفعل توجه إليه ابن أخيه عمرو بن هشام «أبو جهل»، ودار بينهما نقاش لم تسجل كُتب التاريخ تفاصيله بدقة، إلا إنَّ نتائجه السلبية تبدّت تباعاً.
كما توجه وفد من سادات قريش لمُقابلته، وهي سِفارة باطنها إيهام سيد «بني مخزوم» أنَّه مُقدم عند بني قومه جميعاً، كيف لا وهو من عُرف بـ «الوحيد»، وكان يكسوا الكعبة عاماً ويكسونها عاماً آخر، وظاهرها أخذ رأيه في كيفية التعامل مع دعوة محمد بن عبدالله «ص» التي أقضت مضاجعهم، وبالفعل خرج الرجل عن صمته، ونبههم لجزئية مُهمة قائلاً: «يا معشر قريش إنَّه قد حضر الموسم – يقصد موسم الحج – وإنَّ وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضا».
فما كان منهم إلا أن ردوا عليه: «فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأياً نقول به»، قال: «بل أنتم قولوا أسمع»، فقالوا: «نقول كاهن»، فقال: «ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسجعه»، فقالوا: «نقول مجنون»، فقال: «ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو تخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته»، فقالوا: «نقول شاعر»، فقال: «ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر»، قالوا: «فنقول ساحر»، فقال: «ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثه، ولا عقده».
بعد أخذ ورد ومُشاورات عديدة، خاطبوا سيد قومه قائلين: «أرنا رأياً لا غضاضة فيه»، فطلب منهم أن يُمهلوه لبعض الوقت، فكر ثم فكر، ثم توصل إلى ذلك الرأي الصادم، وقال مقولته: «وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحر، فقولوا: ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته».
كان الوليد بن المُغيرة أكثر الحاضرين مَعرفة بأن محمد «ص» على حق، إلا أنَّ عناده وكبره أعماه عن قول الحقيقة، وكان بحق مُسعر تلك الحرب النفسية التي كان لها ما بعدها، ولهذا أنزل الله سبحانه وتعالى فيه قرآن يُتلى، وقال جلَّ في علاه: «كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ، عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ».
استوقفتني هذه الآيات الـ «16» كثيراً وأنا أقرأها، وقُلت في نفسي: لماذا أنزلها الله سبحانه وتعالى في «ابن المُغيرة» ولم ينزل مثلها في غيره من سادات قريش، كـ «أبي جهل»، والحكم بن أبي العاص، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء، وأمية بن خلف، وهم من تفننوا في أذية الرسول الأعظم، والاستهزاء به، وتاريخهم حافل بالكثير من الظلم والتوحش.
رغم وضوح النص القرآني، عُدت لبعض كُتب التفسير المُتوفرة لدي، فوجدت أنَّ استنباطات هؤلاء المُفسرين – قديمهم والحديث – كانت سطحية، ولم تخرج عن سياق أسباب النزول المُتواترة، دون الخوض في نفسية «ابن المُغيرة» العنيدة، وتناقضاته الصادمة، ونرجسيته البليدة، تناولوا سيرته كما تناولوا أقرانه، وكأنَّه صورة طبق الأصل لهم، ولم يجيبوا عن سؤالنا موضوع هذه التناولة.
الوليد بن المُغيرة كان أسوأ سادات قريش؛ لأنَّه عَرف الحقيقة عزَّ المَعرفة وقال نقيضها، لأنَّه «قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ»، وأرضى عناده وكبره ومصلحته ومصلحة قبيلته الضيقة على راحة باله وضميره، وعلى الفوز بنعيم الآخرة، وهو في الأول والأخير مُجرد نموذج صارخ لأشخاص كُثر، موجودون بين ظهرانينا، يطلون علينا بين الفينة والأخرى، يمارسون علينا نفس الدور، وبأساليب مُختلفة، ووزر هؤلاء أكبر من وزر أولئك المُغرر بهم، من يقاتلون من أجل هدف خاطئ، وعلى عقيدة باطلة، ونهايتهم حتماً ستكون كنهاية سيد قريش الذي علمهم التظليل.
أعطى الله هؤلاء المُظللون عقلاً مُتقدا، ورأياً مُقنعا، إلا أنَّ عنادهم وكبرهم وإيثار مصلحتهم ومصالح أحزابهم ثبطتهم عن قول الحقيقة، نجدهم في صنعاء ينظرون للحوثي، ويبررون أفعاله العدوانية، وأنها دفاع عن الدين والوطن، ونجدهم في الرياض يُجملون قُبح التحالف، ويصفونه بالمُنقذ الذي لولاه لكنا في الدرك الأسفل من الهاوية، رغم اقتناعهم بالعكس، وقولهم في مجالسهم الخاصة بأنَّه – أي التحالف – كان سبب بارز لما وصلنا إليه لا نتيجة.
هؤلاء المُظللون هم وهمنا الخادع، وعارنا الذي يُمارس العُهر السياسي بأساليبه الوضيعة، هم صورتنا القبيحة التي يراها العالم ويحكم علينا من خلالها، يُبدون عكس ما يعتقدون، ولو أنَّهم أراحونا بصمتهم لكان حالنا أفضل، ولما زاد شتاتنا، وتعاظم تمزقنا، وقلّت حيلتنا، ولخرجنا من هذه الدوامة المُنهكة بأسرع وقت، وبأقل التكاليف.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.