رحبت بالطلب الذي وافق هوىَ في نفسي، بالإضافة إلى ما أثارته مسألة المقارنة بين نسختين لرواية واحدة من إثارة. في البداية، ظننت الأمر بسيطا، فالرواية، على أية حال، ممتعة، ثم إنها ليست طويلة جدا. ما الذي يمكن أن نسميه هوية النص الروائي، من بين عناصر بناء الرواية التقليدية كلها؟ ما العنصر الذي يحمل جينات الرواية الأساسية، ويجعل منها كيانا أدبيا فريدا من نوعه في كل نسخة من النسخ؟ لا بد أن هناك ما يشبه “دي إن أيه” لكل روايةٍ على حدة، بل لكل نسخة مختلفة منها، مهما تشابهت تلك النسخ، أو حتى تطابقت، ففي ذلك التشابه، أو التطابق ما ينفي حاجة الكاتب الروائي لأن يغير في نصه الروائي في كل مرة يكتبه، حتى يصل إلى مرحلة النشر! أتيح لي مرة أن أقرأ مسودة أولية لرواية منشورة، سبق أن قرأتها فعلاً. كان من المثير فعلا أن أطلع على تلك المسودة التي بدت لي بعد القراءة كأنها شيء مختلف تماما عن النص الروائي الذي نشر بالفعل. لا أدري ما الذي كان يفكر فيه ذلك الروائي، وهو يعود إلى مسوّدته القديمة، ويطلب مني، ومن زميل آخر له، أن نقرأها بعد مرور سنوات طويلة على صدور الطبعة الأولى منها، بصيغتها النهائية. اقترح علينا أن نقرأ النص المكتوب بخط يده، بعد أن صور منه نسختين، واحدة لي والأخرى للزميل الآخر، واحتفظ هو بالأصل. في البداية، طلب أن نقرأ وحسب. وبعد أن أخبرته بإتمام المهمة التي تكاسل عنها الزميل الآخر، طلب مني بلطف أن أكتب ملاحظاتي النقدية للرواية، مقارنة لها بصورتها النهائية، والتي يعرف أنني سبق وأن قرأتها فور نشرها، وأبديت أعجابي بها آنذاك.
رحبت بالطلب الذي وافق هوىَ في نفسي، بالإضافة إلى ما أثارته مسألة المقارنة بين نسختين لرواية واحدة من إثارة. في البداية، ظننت الأمر بسيطا، فالرواية، على أية حال، ممتعة، ثم إنها ليست طويلة جدا، ما يجعلني أنتهي من قراءتها وكتابة ملاحظاتي عنها وعن توأمها في جلسةٍ واحدة، لكنني ما إن بدأت مباشرة المهمة، ومحاولة رصد الملاحظات، حتى شعرت بصعوبة المهمة، إن لم يكن استحالتها. شعرت أنني لست متأكدة من أن الروايتين هما رواية واحدة لكاتب واحد، على الرغم من التشابهات الكثيرة بينهما على صعيد الأحداث والشخصيات، فما أحدثه كاتبهما من تغييراتٍ على النسخة الأخيرة جعل منهما عملين مستقلين. صحيحٌ أن التغييرات قليلة، وتكاد تكون طفيفة، إلا أنها استطاعت أن تترك أثرها في نفسي، وتعيد تشكيل ذائقتي نحوهما. لم أعد متيقنةً من التفريق بين النسختين، الأولى والأخيرة، لم أعد أعرف بالضبط أي النسختين قرأتها أولاً، حتى أنني لم أعد متيقنةً إن كان الكاتب للنسختين واحداً.
هل هي لعبة اللغة؟ أم لعبة الحكاية؟ أم لعبة الشخصيات؟ ولكن كل هذه الألعاب التي يمارس الروائي عادة في الكتابة والخلق الإبداعي اتكاءً عليها، بقيت واحدة تقريبا! إنها التفاصيل إذن؟ أم لعلها الظلال الممتدة تحت جدران الكلمات والعبارات، تطول وتقصر، حتى لتكاد تختفي، وفقا لكمية الضوء الذي يسكبه المبدع بين ثناياها في كل مرة؟ ربما هذا كله.. ولكن علينا أن نصدّق إذن من يقول إن الرواية، وأي نص إبداعي آخر بالضرورة، كائن حي، لا يمكن استنساخه جينيا.. حتى وإن تمت العملية بيد مبدعه الأصلي أو الأول.
هذا واحد من أسرار الكتابة التي تبدو بسيطة، ولكن في تلك البساطة الآسرة يكمن تعقيدٌ كثيرٌ تتداخل فيه قوانين الفيزياء والكيمياء والرياضيات، وعلم الوراثة أيضا.
نقلا عن العربي الجديد