كغيرها من مَناطق «اليمن الأسفل»، دخلت المقاطرة نفق الأئمة المُظلم، وتَجرعت جبروت عُمالهم، وعسف عساكرهم، وفي ذروة تلك المعاناة، وصل الفقيه الثائر حميد الدين بن علي بن عبدالله المكابري إلى قريته الخزفار «1926م»، عائداً من غربة أخذت «22» عاماً من عمره، توزعت بين عدن وجيبوتي والحبشة، إما عاملاً كـ «أسطى» يبني للناس مساكنهم، أو طالباً للعلم يبني للعقل مداركه، وقد تدرج في «الصوفية الشاذلية» حتى وصل إلى أعلى مراتبها.
بدأ الفقيه الخزفاري فور وصوله بدوره الإصلاحي، وتوعية الناس بأمور دينهم ودنياهم، وابتنى – عام عودته – لأجل ذلك مسجداً وزاوية، فيما ظل منزله العامر مفتوحاً للرعية المُتخاصمين، الذين ارتضوا به حكماً دون سواه.
كما عمل الفقيه العائد على استصلاح بعض الأراضي وتوزيعها على الرعايا المُعدمين، وعن ذلك كتب عبدالله باذيب قائلاً: «استطاع حميد الدين أن يكسب قلوب أهل المقاطرة، وأن يقنعهم بتسليمه ما في حوزتهم من بصائر، وهي حجج ملكية الأرض، فأحرقها، وجعل الأرض ملكية جماعية لهم، يوزع محصولها بينهم بالتساوي، بقدر حاجة كل فرد».
حين وجد الفقيه الخزفار أنَّ عُمال الإمام يأخذون على «القات» ضريبتين، تصدى لذلك التصرف المُشين بقوة، وحرض من فوره المزارعين على عدم الدَفع، وكتب إلى علي الوزير «امير تعز» مُلحاً بـ «أن ضريبة واحدة تكفي».
تحريض، ولكنه أسعد الإماميين، وصارت الفرصة مواتية للقضاء على هذا الثائر وللأبد، دمروا المسجد والزاوية «1928م»، وذلك بعد مواجهات محدودة أسفرت عن قتل ثلاثة مواطنين، وعسكري واحد، ألزموا الضحايا بدفع ديته، واقتادوا الفقيه الخزفار صوب مدينة تعز، فيما فرَّ أغلب أقربائه وتلامذته إلى عدن.
وفي تعز، وجه علي الوزير بحبسه في «دار النصر»، وفي السجن أثر «الخزفار» في أصحابه الجدد، ليتسلل فكره ومنهجه مع خروجهم الواحد تلو الآخر، مُتجاوزاً الجبل إلى مناطق عديدة، ليخرج بعد خمس سنوات وقد تضاعف مُحبوه، وتكاثر مُريدوه، وجابت شهرته الآفاق.
الطغاة وعلى مدى التاريخ يَعملون على تَحسين صورهم بتقريب الشخصيات الاعتبارية ذات الحضور الشعبي منهم، وتكليفهم بمناصب ظاهرها خدمة «الرعية» وباطنها اضفاء «الشرعية» على نظام حكمهم، وقد حاول الأئمة كسب الفقيه حميدالدين الخزفار إلى صفهم، وعرضوا عليه بالمراسلة إدارة أوقاف المقاطرة، إلا أنَّه اقتدى بـ «أبي حنيفة النعمان» ورفض ذلك المنصب بعد رفضهم شروطه، الأمر الذي أغضب الطغاة، فأطلقوا عليه لقب «حميد الديك».
عاد الفقيه الخزفار بعد ذلك لممارسة دوره الإصلاحي، ولكن بحذر شديد، كون عيون الأئمة تترصد خطاه، أوعزوا لعملائهم اتهامه بتحريف الدين، وتهديد أمن المجتمع، ثم طاردوه من منطقة إلى أخرى، ليقع في الأخير بين أيديهم «1937م»، بعد أن خسر أحد أفضل مُريديه، وكانت نهايته تماما كنهاية «أبي حنيفة».
أسوأ لحظات عُمر الفقيه الخزفار آخرها، سُجلت فُصولها الكئيبة في دهاليز «القلعة» بصنعاء، السجن الذي نفاه الأئمة إليه؛ لاعتقادهم أن اختلاف المذهب، وبُعد المَوطن سيجعل تأثيره محدود، ولن يتكرر ما حدث معهم بتعز، بصعوبة استطاع الفقيه الثائر ترويض محيطه الاجتماعي الجديد، وبفطنته كسب ثقة الأغلبية، وكان من أبرز رفقائه صالح المقالح والد الشاعر عبد العزيز المقالح، وسيطه عند الإمام يحيى فيما بعد، إلا أن ملك الموت كان أفتك وأسرع.
ودع الفقيه حميد الدين الخزفار الناس والحياة يوم «20 إبريل 1942م»، عن «64» عاماً، وظلت سيرته الطيبة على ألسن محبيه، يلهجون بذكره وكراماته على الدوام، ويثنون على عطائه وتضحياته كيداً للطغاة الحكام، الذين عملوا على تشويه سمعته، واحتقار نضاله، وختموا ذلك باتهامه بـ «الشيوعية»، وأني لا أتخيل روحه ترفرف هناك في الجنة التي طالما تغنى بها في أشعاره، حيث قال:
تزحزح يا فتى فالسعي غالي
وشمر واجتهد هيا تلفلف
تحرك وارتقي نحو المعالي
وسابق سوف يندم من تخلف
مقامات العلى فيها المجالي
فيا سعد الذي فيها ترفرف
جنان الوصل فلا قيل وقال
سوى العشق الغزير هيا تحفحف
خلال المئة عام التي سبقت انتفاضة المقاطرة، قامت في «اليمن الأسفل» عدة حركات صوفية، قارعت ظلم الأئمة، وتبنت خيار مقاومتهم، بدءاً بالفقيه سعيد بي ياسين في إب، والفقيه نعمان البناء في الحجرية، وغيرهم كثيرون، وما ثورة الفقيه حميد الدين الخزفار إلا امتداداً لذلك التاريخ الحافل بالنضال بلا مُساومة.