«نعم نحن بدأنا الحرب، إذا ربحنا سنخلق اليمن الكبرى، وإذا خسرنا ستتدخلون لحمايتنا»، هكذا رد مسؤول جنوبي على السفير السوفيتي في عدن؛ الذي أبلغه اعتراض السوفيت على تلك الحرب، لم يتدخل الأخيرون لصالح الجنوب، فيما تدخلت الجامعة العربية إلى جانب الشمال، وهددت سوريا والعراق بإرسال قوات مساندة إذا لم يتوقف القتال.
ثلاثة رؤساء لقوا حتفهم خلال «255» يوماً، دفع اليمنيون ثمن ذلك الاغتيال المُمنهج كثيراً، عاشوا تفاصيل حياتهم في ذعرٍ دائم، وترقب حذر؛ وكانت الأوضاع بفعل المناكفات والاتهامات الشطرية المُتبادلة مهيأة في أي لحظة للانفجار.
كي ينتقم من قتلة صديقه أحمد الغشمي؛ طلب علي عبدالله صالح من المشايخ دعمه للوصل إلى السلطة، ومن السعودية أتت طائرة خاصة أقلت الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر إلى جدة، وهناك أقنع «الجيران» الأخير بضرورة مُساندة الشاب الطامح، فيما تولى صالح الهديان مهمة إقناع باقي المشايخ، وهكذا أصبح «صالح» رئيساً للشمال «17يوليو1978م»، وسارع المُحللون بالتنبؤ بأن الكرسي المُلتهب سيلفظه خلال أسابيع معدودة.
لم يلفظه الكرسي المُلتهب «صالح»، ولم يبدأ حربه الانتقامية؛ بل بدأها الجنوبيون، وسيطرت قواتهم المُتحفزة على عدد من القرى والمدن الشمالية «24فبراير1979م»، وسارع المُحللون بالتنبؤ بأن سقوط النظام الشمالي – الغارق حينها في إشكالات كثيرة – صار وشيكاً.
«نعم نحن بدأنا الحرب، إذا ربحنا سنخلق اليمن الكبرى، وإذا خسرنا ستتدخلون لحمايتنا»، هكذا رد مسؤول جنوبي على السفير السوفيتي في عدن؛ الذي أبلغه اعتراض السوفيت على تلك الحرب، لم يتدخل الأخيرون لصالح الجنوب، فيما تدخلت الجامعة العربية إلى جانب الشمال، وهددت سوريا والعراق بإرسال قوات مساندة إذا لم يتوقف القتال.
التقى الرئيسان «صالح» وعبدالفتاح إسماعيل نهاية الشهر التالي في الكويت، وانتهت بلقائهما الحرب، بعد أن خلفت أكثر من «6,000» بين قتيل وجريح، كان الأخير – رغم أنَّه الطرف المُنتصر – أكثر مرونة، خاطب نضيرة الشمالي قائلاً: «لنتوحد، السلطة ليست مُشكلة، ليكن الوزراء في صنعاء وزراء، والوزراء في عدن نواباً، وصنعاء العاصمة، وأنت الرئيس».
أحيا الرئيسان «اتفاقية القاهرة»، واتفقا على وضع برنامج زمني لتنفيذها، وأوكل إلى السلطتين إنجاز دستور الوحدة خلال أربعة أشهر، وعلى أن يلتقيا بعد ذلك لإقرار صيغته النهائية، وأن يشكلا لجنة وزارية للإشراف على الاستفتاء العام، وانتخاب سلطة تشريعية مُوحدة خلال مدة أقصاها ستة أشهر.
أثار موقف «فتاح» المُعارض للحرب حفيظة بعض زملائه المُتشددين، بدأوا بالتضييق عليه، وأعاقوا لقاءه المقرر بـ «صالح» في منطقة الشريجة؛ بذريعة أنّه سيتعرض للاغتيال، والأدهى والأمر من ذلك أنَّهم حاولوا اغتياله بإسقاط الطائرة التي أقلته إلى ليبيا لحضور مؤتمر «جبهة الصمود والتصدي» صبيحة يوم «13إبريل1980م»؛ الأمر الذي جعله يقدم بعد سبعة أيام استقالته، وقيل أنه أجبر على تقديم تلك الاستقالة، وأن مغادرته إلى موسكو كانت لغرض الدراسة لا خوفاً على حياته.
كان علي ناصر محمد أحد المعترضين على تلك الاستقالة، ليعمل بعد ذلك على إزاحة «فتاح»؛ خاصة بعد أن جعلته قوى «اليسار المُتطرف» في صدارة المشهد، حلَّ محل الرئيس المُستقيل في رئاسة الدولة والحزب، مع بقاءه في منصبة رئيساً لمجلس الوزراء، الأمر الذي ألب عليه داعميه، وكانت الوحدة واحدة من نوافذ كثيرة للهروب من ذلك الصراع المُتجدد.
وفي المُقابل كان «صالح» أكثر مُرونة في تعامله مع مُعارضيه، شكل لجنة للحوار الوطني مُكونة من «50» شخصاً مُمثلين لكافة القوى السياسية، تمهيداً لتأسيس «المؤتمر الشعبي العام»، فيما جاءت نافذة الوحدة المشرعة لتعزز مواقفه التصالحية، صحيح أنَّ عمليات الاغتيالات والملاحقات الأمنية استمرت في استهداف اليساريين، إلا أن مراقبين موالين للرئيس عزوا ذلك لأذرع الأمن السياسي الخفية، والتي كان يقودها محمد خميس.
بدأ «صالح» يتخلص تدريجياً من تلك الأذرع، وبدأ «ناصر» يهمش من ساندوه بالأمس، وبدأت بذلك مرحلة جديدة في مسار الوحدة اليمنية، تجددت لقاءات الرئيسان في كلٍ من عدن، وصنعاء، وتعز لأكثر من مرة، وأيضاً في فاس بالمغرب، وتم الاتفاق على تشكيل «المجلس اليمني» برئاستهما، مارسا من خلاله مُتابعة الاتفاقيات، والإشراف على اللجان المشتركة، والمصادقة على ما تم الاتفاق عليه.
في النصف الأخير من العام «1981م» وقعت أربع اتفاقيات لوقف إطلاق النار، اثنتان منها خلال شهر واحد، كما تم الانتهاء من إعداد دستور الوحدة، وفي «6 مايو 1882م» اجتمع «المجلس اليمني» بتعز، وحدد لأول مرة عدم تدخل أي من الشطرين في شئون الشطر الآخر، لتتوقف بعد ثلاثة أشهر المواجهات في «المناطق الوسطى» بصورة نهائية.
في الوقت الذي كان فيه الجنوبيون على صفيح ساخن، بدأ الشماليون يستقرون سياسياً، تأسس «المؤتمر الشعبي العام» ليملأ التنظيم الأوحد الفراغ السياسي الحاصل، محتوياً القوى السياسية الفاعلة، مُتحكماً بتوجيه نشاطها، وصار خطاب تلك القوى أكثر عقلانية، خاصة فيما يخص الوحدة، وجاء في «الميثاق الوطني» ما يؤكد ذلك.
استمر التقارب بين «صالح» و«ناصر»، لينجحا بإيقاف «حرب ثالثة» كانت على وشك الاندلاع؛ إثر اكتشاف النفط على خطوط التماس، التقيا في عدن «31يناير1985م»، واتفقا على أن تكون تلك المناطق من مناطق الاستثمار المشترك للتنقيب على الثروات الطبيعية.
«ناصر» ذو النزعة السلمية في صراعه مع الشمال، فجرها حرباً اهلية ضد رفاقه في الجنوب «13يناير1986م»، استمرت لعشرة أيام، وقتل بسببها حوالي «12,000» مواطن، وعدد كبير من قيادات الحزب، وقيل أقل من ذلك، وخسر الجنوب أربعة مليار دولار حسب تقديرات البنك الدولي، أراد بعض المشايخ الشماليين استغلال تلك الأحداث، وغزو الجنوب، وفرض الوحدة بالقوة، إلا أنَّ «صالح» رفض مطلبهم، وأعلن وقوفه على الحياد.
لم تأتِ نتائج الحرب لصالح «ناصر»؛ فهرب شمالاً، ومعه الآلاف من مُناصريه، فيما حلّ علي سالم البيض محله، وحين تأكد له تخلي السوفيت عنه؛ طالب من «صالح» المساعدة للزحف جنوباً، وتحقيق الوحدة بالقوة، رفض الأخير طلبه، واكتفى بالسماح له بمزاولة العمل السياسي تحت مسمى «الحزب الاشتراكي – القيادة الشرعية»، وإصدار صحيفة «كفاح شعب».
بعد عامين من القطيعة، التقى «البيض» و«صالح» في تعز «17إبريل1988م»، وكلفا سكرتارية «المجلس اليمني» باستئناف مهامها، واتفقا على السماح للمواطنين اليمنيين بالتنقل بالبطاقة الشخصية، وعلى إنشاء مشروع مُشترك للتنقيب عن الثروات النفطية.
كان «البيض» حينها مع خيار عدم التسرع بتحقيق الوحدة؛ حتى تحل الأسباب والعراقيل الحائلة دون ذلك، وقال لصحيفة «لاتينا برس» الكوبية: «يجب أن ندرك أنَّ شعار الوحدة له قوة وجذب كبرى، فالكل، الرجعي، والتقدمي، والوطني، والعميل يرفع شعار الوحدة، ويريد أن تتحقق.. ولذلك علينا أن نُكسب الوحدة محتواها الوطني والشعبي، ولا يجب أن نطلق العنان للحماس والعواطف بحثاً عن الوحدة الفورية، والوحدة بأي ثمن».
فجأة وبدون سابق إنذار، غير «البيض» موقفه، ووقع في لحظة عاطفية على «اتفاقية الوحدة» في عدن «30 نوفمبر 1989م»، والقى بعد «25» يوماً من منصة «ميدان السبعين» في صنعاء خطاباً مُطولاً، أكد فيه أنَّ صنعاء وعدن تعانقتا وإلى الأبد، وأضاف: «لا نريد الدموع، ولن تسيل مرة أخرى، ولن تسيل بعد اليوم، نريد الزهور، نريد غصن الزيتون، نريد السلام، نريد الأمان..».
ومن صنعاء أيضاً، وبعد سبعة أيام، أعلن على ناصر محمد اعتزاله العمل السياسي، وأصدر بياناً أكد فيه توجهه الجديد، برره بالحفاظ على المصلحة الوطنية، ليغادر بعد ذلك اليمن نهائياً؛ تنفيذاً لطلب رفاقه في الجنوب، الذين اشترطوا رحيله، وما هي إلا أربعة أعوام حتى لحقوا به جميعاً.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.