منذ سنوات وأنا أتتبع سمات عند بعض الملحدين العرب جعلني أقول إننا أمام إلحاد جديد لم يكن كما الإلحاد القديم أو المعروف، إننا أمام إلحاد جديد يمكن أن نسميه الإلحاد الزائف أو الإلحاد الدوغمائي أو الإلحاد المتطرف.
منذ سنوات وأنا أتتبع سمات عند بعض الملحدين العرب جعلني أقول إننا أمام إلحاد جديد لم يكن كما الإلحاد القديم أو المعروف، إننا أمام إلحاد جديد يمكن أن نسميه الإلحاد الزائف أو الإلحاد الدوغمائي أو الإلحاد المتطرف.
ذهبت للبحث عمن كتب عن هذه الظاهرة، وهل هناك من رصد ما يميزها عن الإلحاد القديم، فإذا بي أجد ملحدين غربيين ينتقدون هذا الظاهرة تحت اسم “ظاهرة الإلحاد الجديد”.. ورصدوا بداية ظهورها إلى ما بعد أحداث سبتمبر، بعضهم يرى أنها كانت ردة فعل على تلك الأحداث، وبعضهم يرى أنهم وجدوا في ذلك الحدث الشرارة التي يستندون إليها فقط للمشي فيما كانوا بدأوا به.
يعود بروز هذه الظاهرة في الإلحاد الجديد إلى أربعة رموز هم: ريتشارد دوكنز، وسام هارس، وكريستفر هيتشنز، ودانيل دينيت، وقد لاقى هؤلاء الأربعة نقدا شديدا من ملاحدة غربيين، ومن أشهر من انتقدهم وانتقد هذه الظاهرة الجديدة في الإلحاد الملحد الشهير مايكل روس الذي ترجم لدارون، والذي كتب عن أحد رموز هذه الظاهرة -ريتشارد دوكنز- ما يلي: “لقد كتبت في مكان آخر أن (كتاب وهم الإله لدوكنز) يجعلني أشعر بالخجل من كوني ملحدا، دعني أقلها مرة أخرى، ودعني أقول إنني أفخر أن أكون محل طعن الملاحدة الجدد، إنهم كارثة حقيقية وأريد أن أكون في الصف الأمامي لمن يقول هذا”.
إنها ظاهرة غربية أولا ثم صارت ظاهرة عربية ثانيا، وسأحاول أن أقف في هذا المقال على سماتها التي تبرزها عن ظاهرة الإلحاد القديم:
1- أولى سمات هذه الظاهرة هي الحماسة الشديدة على نشر الإلحاد ودعوة الآخرين إليه، بعد أن كان يميل خطاب الإلحاد القديم إلى الموقف المحايد تجاه الأديان، ويعتبر الإيمان والكفر مسألة شخصية، ما دام المتدين لم يعتدي عليه، أما هذا التيار فيرى الحياد موقفا سلبيا ويرى أنه لا بد من استئصال التدين من الحياة البشرية لأنه أساس كل شر في العالم كما يزعمون، حتى لو كانت الطريقة هي استئصال المتدينين أنفسهم، وقد يتشفون من قتل إسلاميين غير معتدين، فقط لأنهم اختاروا طريق السياسة، وهي طريقة تشابه طريقة المتدينين المتطرفين في النظرة للآخر واستئصاله.
2- ومن سمات هذه الظاهرة تلك اللغة العدائية الشديدة للدين والتدين، حتى سمتها بعض الدوائر الغربية “مليشيا الإلحاد”، إنه خطاب لا يمتلك أدنى درجات العدل والموضوعية على الأقل لو قيس إلى الإلحاد القديم، إنه خطاب لا يميز بين أنواع الخطاب الديني ويهاجم الجميع بنفس العصبية بل ربما سخر أكثر من أي خطاب عقلاني تنويري، وهاجمه بشكل أكبر من مهاجمته للخطاب المتطرف، خطاب يؤكد مرارا أن كل ما عدا داعش لا يمثل الإسلام الحقيقي، فداعش هي الإسلام الحقيقي عنده، وما عدا ملفقون كذابون مخادعون، فداعش وحدها هي من تمثل الإسلام الذي يعتاش بالهجوم والعدائية عليه، أما الآخرون فيسحبون البساط من تحته فلذا يراهم ملفقون.
إن هذا الأسلوب يكشف عن أزمة نفسية وأخلاقية خطيرة عند هذا التيار، فهو لا يسعى لتشجيع أي خطاب يؤكد التعايش والحرية وإنما يشجع التطرف المضاد كي يثبت أنه على حق.
خطاب يتعامل بكراهية وحقد وغرور لكل ما ينتمي إلى الدين دون تفريق بين حالة اعتداء على حقوقه من غيرها.
ومن الأساليب التي لاحظتها عند هذا التيار لتشويه خصومه هي الكذب عبر نشر تغريدات ومنشورات لشخصيات ملتحية وهمية ثم يتعاملون معها على أنها حقيقة، فهم لا يتحرون مطلقا في كل خبر ينشر عن المتدينين وإنما يقبلونه كما هو ثم يذهبون في تحليله، وهكذا ينتشر التحليل تلو التحليل عند القراء دون أن يفكر أحدهم عن صدق الخبر من كذبه.
3- من سمات هذه الظاهرة ربط الإرهاب بالإسلام أكثر من غيره من الأديان، فاشتغالهم على الإسلام أكثر من الأديان الأخرى، بينما كان الإلحاد القديم في غالبه صراعا مع المسيحية.. إنهم لا يريدون تطوير الخطاب الإسلامي كما تطور الخطاب المسيحي بل يرون ذلك مستحيلا وأن لا حل إلا بإلغاء الدين.
4- ومن سمات هذه الظاهرة المغالاة الشديدة تجاه العلم، أو تجاه العلوم الطبيعية التجربيبة تحديدا، حتى كأن العلم إله قادر على أن يجيب على كل شيء، بينما لا نجد هذه المغالاة تجاه العلم عند فلاسفة ملحدين كبار وعلماء كبار كثيرين لا زالوا يرون أن كمية المجهول أكبر، وأن العلم لا يجيب على كل شيء وقد تدخله الأهام والثغرات.
وأتحدث هنا عن مغالاة لا عن جعل العلم بديلا عن الدين، إذ ذاك سمة حتى عند الإلحاد القديم، بل قد يرفض هذا التيار قضية علمية أو افتراض تتوافق مع الأديان ويؤمن في مقابلها بقضية أو افتراض هو أبعد ما يكون عن المنطق لكنه يؤكد نفي الدين والإله، كما يعملون مع نظرية الأكوان المتعددة، فيمكن قبولها عندهم ما دامت ترفض فكرة إله خالق لهذا الكون.
وفي المقابل تسعى هذه الظاهرة إلى محاولة التشوية المستمرة للدين بأنه ضد العلم وضد تطورالحياة، حتى لو استخدموا الكذب أحيانا.
5- ومن سمات هذه الظاهرة رفع شعار العلمانية كحل يختزل كل مشكلاتنا، إنهم لا يقصدون تلك العلمانية السياسية الحيادية تجاه الأديان والتي تمثل حلا للاختلاف والتنوع، وإنما يقصدون العلمانية الشاملة التي تستبعد الدين من مظاهر الحياة عموما، وهم أحرار في اختيارهم ذاك، لكن عليهم أن لا يدلسوا في خطابهم بالعبارات التي ليس وراءها رؤية واضحة.. ذلك أنك لا تجد لهم رؤية عن ما هي هذه العلمانية وكيف ستتعامل مع ثقافتنا ونتعايش بها مع مختلف المذاهب والأفكار، إنها علمانية لا تركز على الحرية والمواطنة المتساوية بقدر ما تركز على استبعاد الدين والمتدينين من الحياة السياسية بأكملها، أو من الحياة بشكل عام.
إن هذه الظاهرة ترفض وتسخر من أطروحات الإسلاميين الذين يتكلمون عن الدولة المدنية والحرية ويرون أن ذلك مساسا خطيرا بالعلمانية، وكأن العلمانية عجل مقدس صنعوه ثم عبدوه ثم جعلوه شعارا للحرب لا حلا للتعايش.
لقد صنعوا نفس السذاجة التي كان يقوم المتدينون بها حين رفعوا شعار “الإسلام هو الحل” بلا رؤية سياسية واقتصادية وفكرية تجاه قضايا تفصيلية كثيرة، وكذلك شعار “العلمانية هي الحل” شعار دوغمائي شعبوي يهيجون به عواطف الساخطين على التطرف الديني، دون أن يمدوا أيديهم لكل يد صادقة تقول تعالوا نؤمن بحق الحرية والمواطنة للجميع ونلتقي عند منطقة وسطى نتعرف بها بالحقوق لنا جميعا ثم نتنازل جميعا عن قضايا لا تستحق منا كل هذا الصراع والتمزق.
6- ومما يمكن أن يضاف لهذه الظاهرة هو أن لها أبعاداً سياسية تجاه منطقتنا العربية، فليست موقفاً معرفيا فقط، وهو ما نلاحظه عند أتباع هذا التيار في الوطن العربي والذي يقف في صف كل ما هو عربي، ثقافة ولغة وتاريخا، وكل ما هو إسلامي وما يمكن أن ينسب للإسلام من نجاحات سياسية أو اقتصادية، فهو على الضد من كل ما هو إسلامي وعلى التوافق الكامل من كل ما هو غربي، بل ذهبوا أبعد من ذلك في تأييدهم إسرائيل في اعتداءتها في سنواتها الأخيرة ضد غزة، بمبررات سخيفة.. إن هذه التيار يكشف عن نوايا سيئة تجاه قضايا الديمقراطية الحقيقية في المنطقة، ويقف في صف الحرب على الديمقراطيات، فيشجع الانقلابات والحركات المتمردة، ويقف مع انهيار البلدان تحت ذريعة الحرب على الإسلاميين.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.