قال لي زميل كان بصحبتنا: هل كان الرجل في زمن رئاسته ودوداً بشوشاً كما هو عليه الآن؟
ألتقيته بعد زمن غير قصير من تركه كرسي الرئاسة (عفواً، هل قلتُ: تركه كرسي الرئاسة؟ . قصدتُ: قلعه عن كرسي الرئاسة). كان يومها لاجئاً لدى دولة أخرى وفي ضيافة دائمة لدى رئيس آخر. تغيّرت ملامحه كأيّ شخص لم يعد يعمل شيئاً في يومه غير الأكل والشرب والنوم وربما بعض الاهتمام بمتطلبات الريجيم واللياقة البدنية. وتغيّرت طباعه كأيّ شخص لم يعد يحظى بالصولجان والهيلمان والتفاف الحواشي ولهاث المواشي. وربما تغيّرت أمور أخرى لديه، لكنني لم أفقهها آنذاك.
قال لي زميل كان بصحبتنا: هل كان الرجل في زمن رئاسته ودوداً بشوشاً كما هو عليه الآن؟
قلت له: يا صاحبي، لو وجد هتلر نفسه خارج السلطة يوماً لصار ألطف من بريجيت باردو في تعاملها مع القطط!
وكنتُ كلما ألتقيتُ أحدهم وقد خرج من دائرة السلطة أو المنصب الرفيع، وجدته في غاية الوداعة واللطف والبشاشة، بل وفي غاية الحماسة الوطنية وعفة اليد والجيب واللسان. كما أن بعضهم صار فجأة ينافس الأنبياء في تقواهم وزهدهم وسمو أنفسهم!
حتى أن بعض الأصحاب (لا أريد استخدام صفات الزملاء أو الأصدقاء أو الرفاق) بعد خسرانه المنصب وهيلمانه والمركز وصولجانه، تذكّر فجأة أنكم أحباب وعِشرة عمر وتجمعكم ذكريات طيبة وووو وغيرها من هذا الكلام ثقيل الشيلة وطويل التيلة. وتحسبه أنه كان فاقد الذاكرة طوال ذاك الزمن، ثم عادت اليه ذاكرته فجأة!
…
اتصل بي أحدهم ليعزمني على وليمة فاخرة بمناسبة عقد قران حفيده. اعتذرت له بدعوى أنني مرتبط بموعد هام في الوقت ذاته. وهو استشعر من نبرة صوتي أن العذر غير صحيح البتة، فقال لي: ما عرفت عنك الكذب يوماً! .. فأجبته: صدقت، فأنا لم أكن يوماً وزيراً لأتعلّم الكذب! . فأحسّ بالاهانة وسكت على الفور.
هذا المحترم لم يتذكّرني يوماً قط منذ أعتلى كرسي الوزارة، ولم يتذكّر أحد من صحبته الأولى قبل أن يصير وزيراً.. ولكن.. بمجرد فقدانه منصبه، راح كاليهودي يفتش في دفاتره القديمة، بحسب المثل العامي.
ومثل هذا المحترم كثيرون صادفتهم في مشوار عمري، وصادفهم كثيرون غيري. وهو يظلون يُستنسَخون إلى ما شاء الله أو الشيطان لهم الاستنساخ. هم يسقطون دوماً، ونحن نرتقي على الدوام. وهكذا دواليك.
ذات نهار بعيد، سمعني الراحل العظيم سلطان أحمد عمر أشتم أحد هذه الأنواع شتيمة في غاية البذاءة. فقال لي: لا تُوسّخ لسانك النقيّ بشتم أمثال هؤلاء على هذا النحو. رددتُ عليه: أحياناً تضطر لتتقيّأ بهذا النوع من الكلام. قال حينها: اذن فلتكتفي بشيمة واحدة مناسبة “أولاد الهرمة”. أخبرته بأن الكلمة لم تعجبني لأنها وقورة ومهذبة، ولكنني سأتبع نصيحته ما حييت.
آآآآآآآآآآآخ يا أولاد الهرمة.. بل يا أولاد ستمية هرمة!
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.