لنعد للصورة التي يجلس فيها اليمني وقد تفسّخت ولم يعد يعرف أين يجلس في وطن يتقاسمونه، أم في بلد صنع منها أحلامه طويلا فتطايرت كالعهن ولا أمل للإمساك بها مجدد كانت الصورة واضحة لذلك كان من السهل وصف زواياها وتدرّجات ألوانها، إلا أن الحال تغيّر وبهتت الصورة وأصبحت قاتمة منذ ليال طويلة، وذلك الإطار الذي ظننا أنه حامٍ لها أصبح يشوهها ويسلبها معالمها التي ظل يحافظ على اتزان و جمالية الصورة، نقول إننا نعرف جيدًا ما يحدث في اليمن، نعيش التفاصيل والأحداث ونشجب عقب كل كارثة ونلوّح بالإتهامات لأطراف كثيرة، كل ذلك يمر دون جدوى، والصوت الذي نادى طويلًا خفت رجْعه وانخفضت حدّته، فلم يلق له بالا، فتاه مع الأيام.
المشاهد المتناقضة في اليمن تجعلنا نبكي طويلا، ثم نوقف العويل ضاحكين من غرابته الساخرة، كلّما قلنا إننا أمسكنا طرف الخيط، تاه من جديد لنعد لنقطة البداية، ومن ثم نذهب لدوّامة جديدة.
يسير اليمني صاحب الصورة الأولى في بلاده مُنكسًا رأسه في مستقبل لا ملامح له، ومن حاضر يُمسك بخاصرته، ومن أيام لا تتوانى عن إذلاله. تلك هي الصورة المغيّبة عن الأبراج العالية، الصورة التي يعيش فيها اليمني منذ أربع سنوات، وما إن تلوح بارقة أمل حتى ينفض اليمني كل ذلك الأسى مرحبًا باليوم الجديد، لكن سرعان ما يبهت بريقه ويتغضن حاجبيه ليعود اليأس يشكل ملامحه من جديد، وهذا ما يخيف اليمني، لا أرض ثابتة يقف عليها، ومحكوم بوقت لا يتودّد إليه وبقررات لا تشد من أزره.
لنعد للصورة التي يجلس فيها اليمني وقد تفسّخت ولم يعد يعرف أين يجلس في وطن يتقاسمونه، أم في بلد صنع منها أحلامه طويلا فتطايرت كالعهن ولا أمل للإمساك بها مجددا.
أما الصورة الأخرى فهي مزدانة بالألوان واضحة جلية، إطارها السميك يحميها من أي عارض وطارئ، يجلس فيها اليمني الآخر مرخيًا كتفيه وتتمدّد بطنه إثر كل جلل وكارثة، وكلّما ازدادت المصائب أرخى يديه ليأخذ ما تجود به الحروب من صنائع. هؤلاء الذين يتربُعون على الصورة لا تخيفهم إطالة أمد الحرب، بل يشعرون بضرورة استمرارها ويخافون من توقفها كي لا تتوقف مدّخراتهم عن النمو أكثر.
أصحاب هذه الصورة يعيشيون في اليمن ولكن بصورة مختلفة عن الأولى لا يخافون إنقطاع الراتب، الراتب الذي لم يشكل لهم أدنى مشكلة منذ انقاطعه؛ لأن ما حصلوا عليه يفوق أضعاف ذلك الراتب، ولم يصابوا بالهلع من مغادرة الناس لمنازلهم وتشريدهم في ظلمات طِوال، لهم حصونهم الآمنة وجلودهم المتلوّنة وأموالهم المتدفّقة يمشون في أسواقها مملوءة جيوبهم، لا يخشون ارتفاع الأسعار أو انعدام أساسيات الحياة، فلديهم طرقهم في جلب كل ما يحتاجونه، أصحاب هذه الصورة لديهم القدرة على تغييرها في أي وقت طالما يصبُ الأمر في مصلحتهم، ستصبح صورة بيضاء نقية دون شائبة متى شاءوا، ومن حسن حظهم أن المستقبل يجاري تطلّعاتهم. إلا أنه لا ينسى المرء كل ذلك بسهولة.
أما الصورة الثالثة فهي صورة تمثل الطبقة الحاكمة أو من يُخيّل لنا أنهم يحكمون، هي صورة جامدة ليس من السهل لمسها أو الوصول إليها، تتعامل مع المواطن اليمني من مكان عالٍ، وتتخذ من الحرب فرصة لنجاتها، اليمن بالنسبة لها وطن ضائع وتتعامل معه على هذا الأساس، وعلى الرغم من كونهم يمثّلون دولة وشعبًا إلا أن لا أصوات لهم، يُستخدمون كورقة لوقت الحاجة، تسلب منهم كرامتهم يومًا بعد يوم ويكتفون بالتحديق لملامحهم المتهدلة. هذه الصورة في البدء كنّا نعول عليها أما الآن وقد فسُدت فلم تعد سوى صورة مقززة جالبة للسأم وللهزيمة المكررة
هؤلاء هم من غادروا اليمن وتركوه لنيرانه، ثم قالوا من المنفى نحن يمنيون!
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.