كان ضرار رزينًا ومضيافًا، ذكيًا ومبتسمًا على الدوام، عندما كنت في صنعاء اتفقت معه أن يدرس الجامعة ولا يمشي بخطوات إخوته الثلاثة الذين يكبرونه، نعم، هو الصغير المحب للقراءة والمتفوق في الدراسة والقابل للتعلم والتعليم.
ستشعر بأنك كلما بدأت بالتماهي مع الحياة، والتعافي من مصائبها، يوجه لك القدر لكمة على وجهك أو صفعة بيد ملبسة بالمسامير.
هكذا شعرت عندما تفاجأت بخبر استشهاد ضرار بن عمتي. كنت أتصفح الفيس بوك قبيل فجر الجمعة الفائتة، وتفاجأت بالخبر، كما تفاجأت بحمل ضرار للبندقية، الحزن عم الأسرة والأصدقاء، تفرقت المواساة كما تعددت روايات الآخرين حول استشهاد أصغر أولاد عمتي، ولم نعرف كيف نواسي بعضنا، وكيف حال أم الشهيد وأبوه، وأسرته التي تسكن في صنعاء.
ظل الخبر طويلًا يحوم حول جدتي، أعمامي وقريباتنا يطفن حولها، غير أنهم يعودون من مشارف إلقاء النبأ الفاجعة، ليت لجدتي صفحة بالفيس بوك لتستلقف الفاجعة، وتقلب الصور، وتبكي، وتدخل إلى صفحة ضرار لتأمل شذرات الولد الهادئ.
كان ضرار رزينًا ومضيافًا، ذكيًا ومبتسمًا على الدوام، عندما كنت في صنعاء اتفقت معه أن يدرس الجامعة ولا يمشي بخطوات إخوته الثلاثة الذين يكبرونه، نعم، هو الصغير المحب للقراءة والمتفوق في الدراسة والقابل للتعلم والتعليم، ورغم أنه المدلل بحكم أنه أصغر إخوته، إلا أنه الهادئ والكبير التي تتكئ عليه العائلة في تصرفاتها.
عمي، والده، ينادى باسم “أبو ضرار”.
جمع هذا اليافع كل الصفات الحميدة، ليكن وجع الفراق مضاعفًا.
كان بإمكانه أن يبقى في صنعاء معززًا مكرمًا، محاطًا بالأصدقاء والدلال، ويذهب إلى قاعات الجامعة بهندامه المؤنتك وابتسامته الجذابة، كان بإمكانه أن يكون ضمن الحوثيين مثل أحد إخوته أو فردًا في نقطة آمنة للمليشيا، وكان بإمكانه أن ينصرف لبلاد والده أو أمه كإجازة طويلة من صخب الحرب..
لا لا.. لم يتصرف ضرار كطائش يبحث عن المصلحة، ولا محايد ليعيش حياته بذكاء ويدرس.
كان ينظر إلى أقربائه وأصحابه يستشهدون وهم يدافعون عن الوطن من بطش المليشيا، كنت استغرب كيف يمتلك الشجاعة ليعبر عن حزنه وهو في صنعاء ونشر صورهم ووصف المليشيا بالمليشيا.
ماهر بن خالته، أخي محمد بن خاله، عزام باسم صديقه.. وآخرون. جاء إلى تعز ليقف في هذا الصف، وهو في هذا الموقف كان خجولًا يستحي أن يصافح أحد، ومبتسمًا رزينًا ينعكس مزحه الخفيف حوله وفي صفحته.
وجع كبير لا أعرف كيف نفيق منه، وخاصة إذا ما قسنا رحيل ضرار على معظم الأسر اليمنية..
كنت في انتظارك أن تستلم شهادة التعليم العالي.. أن نرى انعكاس تفوقك في الصغر على عنفوان الشباب، لكنها المقادير..
كلما فتشت عن آخر ما كنت تشعر به، لم أجد إلا ما نقلته: الموت لا يوجع الموتى، يوجع الأحياء..
ثمة رسالة أخيرة نشرها أحد أصدقاء ضرار، هي حديث أصحابه وأقاربه، ربما أعجبت ضرار وربما تقمصته في لحظة ما وعبر بها:
«إعلم أنني انتظرت طويلًا يا صديقي لأجل أن أموت.. شهدت على قلوب تذوب وهي تفارق أحبتها إلى الأبد، وشاهدت قلوب باكية تتألم، بل بالأصح تحتضر، وأنا احتضرت بما فيه الكفاية وأتى موعد رحيلي..
أريد أن أخبرك ملخص هذه الكلمات، أريدك يا صديقي أن لا تتألم لرحيلي، لأنك ستذوق سكرات الموت وأنت حي، أنا لا أريد أن تموت مبكرًا مثلي.. اصنع مستقبلك ولا تقصر مع ربك.. خاصة: لا تقصر مع ربك… ولا تكن فاشلًا مثلي، وفي كل ذكرى تذكرك بي ابتسم لأنها كانت جميلة، ولا تبكي وتتألم إذا ذكرتني لأنك ستدمر نفسك صدقني.. ولأني أحبك يا صديقي أخبرتك بهذا الكلام لأني جربت معنى رحيل الأصدقاء والأحباب بلا عودة، وأخبرتك بما فشلت أن أعيشه بحياتي..
وبالواقع والحقيقة، الرحيل والفراق والفقدان وعدم وجود أشخاص أثق بهم هو سبب رحيلي وموتي، وأريد أن أخبرك أني أيقنت عند موتي أن الشيء الذي تفكر به بكثرة، هو أيضًا يفكر بك، على سبيل المثال، كل تفكيري كان عن الرحيل، وها أنا رحلت…. وصية وليست رسالة».
وشدد ضرار: وصية وليست مجرد رسالة.. ربما رحيلي اقترب..
أخوك ضرار.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.