الروح في مصطلحاتنا المعاصرة صار يطلق على ما يحيا به الجسد، وأصلها تلك النفخة التي نفخت فيه.
واحدة من الأزمات التي نعانيها في مجتمعاتنا العربية هي أزمة تحرير المصطلحات، ربما سمعنا كثيرا عن هذا العنوان في الوسط الثقافي، وخاصة في الجدالات والنقاشات والحوارات التي تأخذ طابعا جديا.
تحرير المصطلح ببساطة يعني: توضيح وتبيين المصطلح من قِبَل مَن أراد استعماله بشكلٍ يُستبعد معه أن يفهم بفهْم آخر.
ومن يتأمل الساحةَ الثقافيَّة هذه الأيام يجدها تعجُّ بالمصطلحات التي تحتاج إلى تحرير، حتى تكون المساجلات الثقافية ذات إثراء وفائدة، وحتى يكون منَ الممكن أن يصلَ المتناقشون حول موضوع معيَّن إلى نقطة ائتلاف، يمكنهم أن ينطلقوا منها أو يعودوا إليها.
في تحريري لكثير من المصطلحات أعود عادة إلى النص العربي الأول والأوثق، فهو أهم مرجع لغوي للعربية، وهو القرآن الكريم، في ماذا استخدم القرآن هذا اللفظ وكيف تساعدنا السياقات على فهم المصطلح، سواء كان السياق القريب للآية، أو السياق القرآني بشكل عام، أي تفسير القرآن بالقرآن.
إذا كانت هناك أزمة في تحرير المصطلحات بشكل عام، فإن أزمتها في تحرير المصطلحات القرآنية تبدو أعظم وأهم، لأن مصطلحات القرآن جاءت لتشكل تصوراً للإنسان عن الحياة والكون، وأي ابتعاد عن المعنى الأساس للمصطلح يؤدي لتشكل تصور مختلف عما أراده المولى سبحانه.
كثيرة هي المصطلحات القرآنية التي صار لها اليوم استخداما مختلفا، ويأتي على رأسها مثلا العقل، والروح، ولأن هذه المصطلحات تتعلق بالإنسان وبنظرية المعرفة دعوني أتوقف بكم عند مصطلح الروح.
الروح في مصطلحاتنا المعاصرة صار يطلق على ما يحيا به الجسد، وأصلها تلك النفخة التي نفخت فيه.
فهل هذا المعنى للروح هو ما جاء به القرآن؟ وهل تلك النفخة هي الروح أم هي نفخة الروح؟ تعالوا لنتأمل:
جاء ذكر الروح في القرآن في عشرين آية، وقد فسرها المفسرون بعدة معان، مرة بأنها جبريل ومرة بأنها القرآن، ومرة بأنها الكائن اللطيف في الإنسان والتي بها تكون الحياة، ومن يتأمل الآيات التي جاء فيها لفظ الروح يجد أن المعنى الأول وهو “جبريل” هو الأوضح في القرآن، ودلالة الروح بأنها ملك سماوي تكررها عدة آيات، أما الآيات الأخرى وهي قليلة فيمكن تأويلها بأنها جبريل أيضا، وهو الأولى لأن السياق القرآني للكلمة في القرآن يؤكد ذاك المعنى ولا نحتاج لمعنى آخر إلا أن كانت دلالة الكلمة لا تعطي ذلك المعنى، وسنرى حين نتوقف مع الآيات ونفسر بعضها ببعض كيف أن الروح في القرآن يحمل معنى واحدا وهو جبريل.
أولا: الآيات الواضحة في دلالتها على أن الروح هو جبريل:
يقول تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿١٩٣ الشعراء﴾ أي القرآن نزل به جبريل.
وهناك آيات تضع الروح مع الملائكة، بمعنى أن الروح ملك:
يقول تعالى:
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ﴿٣٨ النبإ﴾
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴿4 المعارج﴾
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴿4 القدر﴾
والآيات التي تضيف الروح إلى القدس، وروح القدس هو جبريل:
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴿٨٧ البقرة﴾
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴿١٠٢ النحل﴾
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴿٢٥٣ البقرة﴾
اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴿١١٠ المائدة﴾
والآية التي تتحدث عن تأييد الله للمؤمنين بالروح، وقد فسرها المفسرون بأنها جبريل:
أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ﴿22 المجادلة﴾
والآية التي تتحدث عن إرسال ملك في شكل بشر لينفخ في مريم:
فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴿17 مريم﴾.
ثانياً: بعد هذا الوضوح في دلالة الآيات السابقة هل يمكن أن نؤول الآيات الباقية في ضوء هذا المعنى؟ حين التأمل البسيط سنجد أن بقية الآيات تعطي نفس المعنى.
يقول تعالى:
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ﴿12 التحريم﴾
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ﴿91 الأنبياء﴾
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴿١٧١ النساء﴾
وهذه الآيات الثلاث يمكن فهمها في ضوء الآية السابقة (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴿17 مريم﴾ وتأمل معي “أرسلنا إليها روحنا” و”فنفخنا فيه من روحنا” فالمرسل هو جبريل وهو الذي نفخ فيها، وقد أضيف إلى ضمير الجلالة “روحنا”، وهي تشبه “رسولنا” و”رسلنا” و”رسلي” وكان من يتصل رسول السماء إلى الأرض بالوحي يسمى “روحا” ورسول البشر يسمى “رسولا ونبيا”.
ثالثاً: في ضوء هذه الآيات الأخيرة يمكن أن نفهم الآيات التالية والتي أضيفت فيها كلمة الروح لله سبحانه على أنها إضافة تشريف لذلك الملك.
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴿72 ص﴾
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴿٢٩ الحجر﴾
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ﴿9 السجدة﴾
فقوله تعالى: “نفخت فيه من روحي” تشبه الآية التي تحدثت عن مريم وعيسى “فنفخنا فيه من روحنا”، وروحنا كما علمنا بالآية السابقة هو جبريل “فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا”.. وتكون ياء المتكلم في “روحي” مشابهة لــ نا الفاعلين في “روحنا”.. وبهذا فإن ما حصل لآدم هو نفخة الروح أي نفخة جبريل لا أن النفخة ذاتها روحا.
رابعاً: يبقى معنا أربعة آيات فقط من الآيات التي جاء فيها لفظ الروح، ثلاث منها تحتمل أن تكون الروح هي الوحي ذاته الذي ينزل به جبريل.
يقول تعالى:
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ﴿١٥ غافر﴾
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴿٢ النحل﴾
وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴿52 الشورى﴾
ولكن إذا تأملنا هذه الآيات الثلاث سنجد أنها اقترنت بلفظ الأمر، فإذا فهمناها في ضوء الآية السابقة التي ذكرت الأمر (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴿4 القدر﴾، فهمنا أن جبريل يكون روحا في حالة تنزله بالوحي، فيكون الوحي وجبريل هو الروح ذاته.
خامساً: تبقى معنى آية واحدة في القرآن وهي التي بنوا على البنايات الشاهقة بأن الإنسان مخلوق من جسد وروح، وأننا لا نعرف كنه تلك الروح، وهي قوله تعالى:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴿٨٥ الإسراء﴾
ولفظ الروح يمكن أن يفهم على أنه الوحي، وخاصة أن الآيات قبله وبعده تحدثت عن القرآن، ويمكن أن يفهم وهو الأولى والأدق في ضوء السياق القرآني للفظ المعرف بالألف واللام “الروح” وهو الذي جاء واضحاً في الآيات السابقة بأنه جبريل، وسيكون فهم الآية بسيطا وواضحا، فبعد أن سأل المشركون النبي عليه السلام عن من يأتيه بالقرآن جاءت الآية لتقول “إن هو إلا وحي يوحى”، وأن ذلك الوحي “نزل به الروح الأمين” جاء سؤالهم ومن هو الروح؟ فكان الجواب: قل الروح من أمر ربي، ولاحظوا اقتران الروح بالأمر لأنه من يتنزل بالأمر، وقد ذكر الماوردي في تفسيره عدة أقوال في هذه الآية ومنها أن المقصود به جبريل.
إذن فإن القرآن تحدث عن نفخة للروح، وليست النفخة ذاتها روحا، ولم يتحدث عن أن الروح جزء من الإنسان، ولا تحدث أنها هي من تقبض حين الوفاة، إذن فما هي تلك التي تقبض وتتوفى؟ إنها النفس.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.